عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴿٩﴾ ﴾ [هود آية:٩]
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]
ذاق الشيء: خبره وجرّبه. والذوق يكون بالفم وبغير الفم، ويكون في المحمود والمكروه (1). وهو يصلح للقليل والكثير (2). قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا}. [الأعراف: 22]، وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] وهذا الذوق القليل.
وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]. والعذاب هنا دائم مستمر لا ينقطع، واستعمل له الذوق.
وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] ، وهو نحو ما مر.
وقال: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 38، 39]، فذكر أن العذاب مستقر، أي ثابت لا يتحول، ثم قال: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ }وهو عذاب متصل وقد عنه بالذوق؟
وقال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] فوصفه بأنه عذاب كبير.
وقال: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] فوصفه بأنه عذاب شديد.
والرحمة نعمة من صحة أو مال أو كل ما تقتضيه راحه البال، ونزعها سلبها. واليؤوس "شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع.
و{الْكَفُورَ}: "عظيم الكفران لما سلف من التقلب في نعمة الله نساء له" (3).
وهذا تبيين لحال الإنسان وهي أنه إذا سلبت منه نعمة كان يتقلب فيها يئس من عودتها، وكفر النعمة التي كان ينعم فيها إلا ممن استثناه الله فيما ذكر بعد.
وقد قدم الجار والمجرور (منا) على الرحمة فقال: {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}، في حين أخره عنها في موضع أخر، فقد قال في فصلت: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50].
فقدَّم الرحمة وأخر الجار والمجرور (منا) ذلك أنه في أية هود ذكر ما يفعله نزع الرحمة لا ما تفعله الرحمة فأخرها، لأن الكلام ليس عليها بل على نزعها.
وأما أية فصلت فإن الكلام ما تفعله الرحمة بعد الضراء. فآية هود في نزع الرحمة فأخرها، وأما أية فصلت فالكلام على الرحمة فقدمها.
لقد ختم آية هود هذه بقوله: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} فختمها باليأس والكفران.
وفي آية أخري ختمها باليأس والقنوط. فقد قال في فصلت: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]
فختمها بقوله: {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} والقنوط شديدة اليأس من الخير، ذلك - والله أعلم - أنه في هود ذكر أمرين: إذاقة الرحمة ونزعها، وبين أن الإنسان إذا سلبت منه النعمة التي كان يتقلب فيها أدركه اليأس ولم يشكر ما سلف من نعمة الله عليه فهو يؤوس كفور. مع أن إذاقة الرحمة تقتضي الشكر وأن نزعها يقتضي الصبر والدعاء والرجاء غير أنه يئس وكفر.
وأما في فصلت فلم يذكر نعمة أو خيرًا أصابه قبل أن يمسّه الشر وإنما ذكر مَسَّ الشر فحسب.
وأما قبل ذلك فلم يذكر أنه مسه خير أو أصابته حسنه، وإنما قال: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} وهذا لا يدل على حال بعينها من نعمة أو سوء.
ولما ذكر مَسَّ الشر له فحسب جاء بصفتين من صفات اليأس، فقال: (يؤوس قنوط).
فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 36 إلى ص 39.
(1) انظر لسان العرب (ذوق)، المصباح المنير (ذوق).
(2) انظر مفردات الراغب (ذوق).
(3) الكشاف 2/92.