عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿٧﴾    [هود   آية:٧]
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] بعد أن ذكر قدرته وعلمه بالبشر وعموم الأحياء ذكر قدرته وعلمه بعموم الخلق فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي هو لا غيره. فهو الذي خلقهن حصرًا فلمَ يعبد سكانهما غيره؟ فارتبط ذلك بقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2]. وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فدل على أنه الملك والمالك والحاكم لأن صاحب العرش هو الملك. ودل على أن ملكه وحكمه قديمان، فإنه الملك قبل أن يخلق السماوات والأرض فإنه كان عرشه على الماء. فهو رب العرش العظيم ورب ما كان عليه العرش. وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي ليختبركم، ومعنى ذلك أنه خلق السماوات والأرض لحكمه وليس عبثًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 – 39] فدل على أنه حكيم. ثم ذكر عاقبة هذا الابتلاء وأنه لم يتركهم سدى، بل سيبعثهم بعد الموت ليجزيهم على ما قدموا فقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} فدل على أن لهذا الاختبار جزاء بعد الموت. 1- فارتبط قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [هود: 4]. 2- وارتبط ذلك قوله: {حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فإن الذي خلق السماوات والأرض بهذا النظام المحكم الدقيق إنما هو حكيم خبير. 3- وارتبط قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} بقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بمعنى الحكم. فصاحب العرش إنما هو الحاكم. 4- ودل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} بأن حكمه وملكه قديمان وليسا حادثين، فإن ذلك قبل خلق السماوات والأرض. 5- ودل قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أنه إنما فعل ذلك لحكمه، فارتبط ذلك قوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بمعنى والخبرة. والذي يعلم أحسن الأعمال إنما هو الخبير. فارتبط قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} باسمه الحكيم من الحكم. وارتبط قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} باسمه الحكيم من الحكمة، وارتبط باسمه الحكيم من الحكم والقضاء؛ لأن الذي يحكم في الأعمال حسنها وأحسنها إنما هو الحاكم ذو الحكمة. 6- وارتبط قوله: { وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} بقوله {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. 7- وارتبط قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} بقوله تعالى بعد هذه الآية: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] ذلك أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان بمقدوره أن يقول لها: (كن) فتكون، ولكن إنما فعل ذلك لحكمة، فقد خلق السنن الكونية وجعلها تعمل بقدرته وتقديره. وقد يكون إنما فعل ذلك ليعلّم عباده الصبر، فإنه أمر بالصبر بعد بعض الآيات التي ذكرت ذلك، فقد قال في سورة (ق): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، ثم قال بعد ذلك: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. فإذا ذكر أيامًا معدودات لخلق السماوات والأرض وهي ستة أيام وذلك لحكمة أرادها فإنه قد يؤخر العذاب إلى أمة معدودة تفتضيها حكمته. فدلت هذه الآية على أنه حي عالم قدير حكيم خبير. واقتضى ذلك ألا يعبد غيره. وكيف يعبد غيره وهو الخالق القادر الرزاق العالم المحيي المميت الباعث؟ ثم قال بعد ذلك: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. أي أنك تزين هذا الأمر بحديثك وتعدهم بالبعث بعد الموت ليطيعوك فتسحرهم بقولك وتؤثر فيهم تأثير السحر مع أن كلامك باطل بطلان السحر، وقد قال أحدهم عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]. جاء في (الكشاف) في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} "باتين القول ببطلانه ... ومعنى قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيهًا له به. أو أشاروا بهذا إلى القرآن، لأن القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرًا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره" (1). وجاء في (التفسير الرازي): "قال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازًا لهم على الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم ... الثالث: إن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحرًا لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع" (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 30 إلى ص 33. (1) الكشاف 2/91. (2) تفسير الرازي 6/320.