عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿٦﴾ ﴾ [هود آية:٦]
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]
"الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرًا كان أو أنثى، عاقلًا أو غيره" (1) ويحتاج إلى رزق (2).
والمعنى: أن كل دابة في الأرض ضمن الله لها رزقها وهو يعلم مستقرها، وهو الموضع إلى استقرت فيه قبل مجيئها إلى هذه الدنيا سواء كانت في صلب أم رحم أم بيضة. وما تستقر فيه حيث تأوي إليه من الأرض. ويعلم مستودعها وهو الموضع الذي تموت فيه وتدفن (3).
وقد تقول: ولم قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} فخص الدابة التي في الأرض ولم يذكر ما في السماء مع أنه ذكر دواب السماء في أية أخرى.
قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]؟
فنقول إن السياق قبل الآية وبعدها على من في الأرض وعلى سكان الأرض، بل إن السورة عمومًا في الكلام على أهل الأرض والأمم التي عاشت فيها.
فناسب ذكر دواب الأرض.
ثم إنه سبق أن قال في أية قبل هذه الآية: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4] فذكر قدرته على كل شيء، فدخل في ذلك دواب السماء وغيرها.
وإضافة إلى ذلك فإنه قال بعد هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [هود: 7] فذكر أنه هو خلقهما فدخل في ذلك دوابهما.
وقال ف أخر السورة: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] فذكر أن له غيب السموات والأرض حصرًا لا لغيره، وأنه إليه يرجع الأمر كله حصرًا لا إلى غيره. فلا أمر من الامور خارج عنه وعن إرادته، فدخل في ذلك دواب الأرض والسماء وإن أمر ذلك راجع إليه. فتضمن ذلك دخول دواب السماء في أمره كدخول دواب الأرض، وغير أنه لما كان السياق في سكان الأرض ناسب ذكر ما يسكن في الأرض من الدواب.
ومن الطريف أن نذكر أيضًا أنه ذكر الأرض في السورة أكثر مما ذكر السماء والسماوات.
فقد ذكر الأرض في السورة إحدى عشرة مرة، وذكر السماء والسماوات ست مرات، مما يدل على أن الجو العام إنما هو في الأرض أكثر مما في السماء والله أعلم.
إن هذه الآية متصلة بقوله تعالى في أية سابقة: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ذلك لأن الذي يضمن لكل دابة رزقها ويوصله إليها إنما هو على كل شيء قدير.
ومتصلة بقوله تعالى في الآية السابقة لها: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فإنه ذكر جانبًا من علمه هناك، وذكر جانبًا آخر هنا. فإن الذي يعلم مكان كل دابة في الأرض ويوصل إليها رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها إنما هو الذي يعلم الإسرار والإعلان وهو العليم بذات الصدور.
ثم ذكر علمه بكل دابة في الأرض ومكانها ومستقرها فاستغرق علمه بكل الأحياء.
ثم ذكر علمه الذي لا يحد، فإنه علم كل ذلك قبل وجود هذه الأشياء وسطر ذلك في كتاب مبين في اللوح المحفوظ.
أما تأليف الآية فإنه جاء فيها بـ (من) الاستغراقية التي تستغرق كل ما يدب على الأرض.
ثم قال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقدم الخبر (على الله) على المبتدأ (رزقها) وذلك للحصر للدلالة على أن رزقها عليه حصرًا لا على غيره. ولو قال: (إلا رزقها على الله) لم يفد أن رزقها عليه حصرًا.
فهناك قصران:
الأول: (إلا) في الاستثناء المفرغ.
والأخر: تقديم الخبر.
وقد تقول: لو قال: (كل دابة على الله رزقها) لأفاد العموم أيضًا لأن كلمة (كل) تفيد العموم.
فنقول: إن هذا التعبير الذي ذكرته لا يفيد قصر المبتدأ على جملة الخبر وإنما هو إخبار من غير قصر، وإنما القصر في جملة الخبر (على الله رزقها) وليس في (كل) مع جملة الخبر.
أما التعبير القرآني فإنه أفاد أنه حصر كل دابة على رزق الله وحصر الرزق على الله. وإيضاح ذلك أنك تقول:
(كل رجل كتابًا قرأ)
وتقول: (ما من رجل إلا قرأ كتابًا)
وتقول: (ما من رجل إلا كتابًا قرأ)
فالجملة الأولى خصصت فيها القراءة بالكتاب وأنه لم يقرأ غير الكتاب.
والجملة الثانية خصصت فيها الرجل بقراءة بالكتاب، ولم تخص القراءة بالكتاب دون غيره. فقد يكون قرأ أيضًا غير كتاب. فقد ذكرت أن كل رجل قرأ كتابًا ولم يبق رجل لم يقرأ كتابًا. فأخبرت عنهم جميعًا أنهم قرأوا كتبًا ولم تستثن أحدًا من قراءة الكتاب، وغير أنه قد يكون فيهم من قرأ غير كتاب أيضًا، فقد يكون قرأ مجلة أو غير ذلك مما يقرأ.
فإن قلت: (ما من رجل إلا كتابًا قرأ) كنت خصصت الرجل بالقراءة، وخصصت القراءة بالكتاب.
فالآية تفيد حصر الدابة على رزق الله، وحصر الرزق على الله.
ثم قال: (كل) أي كل ذلك عن كل دابة مدون في كتاب قبل خلقها.
وهذا الكتاب يبين كل شيء عنها.
فتضمنت الآية قدرة الله وعلمه على أتم حال.
1- فقد جاء بـ (من) الاستغراقية الدالة على الشمول.
2- وقال: (دابة) وهو يشمل كل ما يدب من الاحياء وهو أعم شيء في الأحياء.
3- وقال: {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقصر الرزق على الله دون غيره.
4- وقال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقصر الدابة على رزق الله.
5- وقال: {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولم يقل (الله يرزقها) مثلًا للدلالة على أنه ضمن لكل دابة رزقها وتكفل بذلك فهو يوصله إليها.
6- وقال: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}، والجملة معطوفة على الجملة {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، والتقدير: (وما من دابة إلا يعلم الله مستقرها ومستودعها) فلا تند عن علمه دابة.
7- قال: ( مستقرها) وهو يشمل كل موضع تستقر فيه أو استقرت فيه وكل أنواع الاستقرار سواء كان ذلك قبل مجيئها على هذه الحياة أو في حال وجودها في هذه الحياة أو بعد ذلك حيث كانت أو حيث تكون، وأين كانت قبل مجيئها سواء كانت في رحم أم بيضة أم صلب. وبعد مجيئها حيث تستقر وتأوي وحيث تكون بعد هلاكها.
ويعلم استقرارها أيضًا، فكلمة (مستقر) تدل على اسم المكان والمصدر واسم الزمان. فهو يعلم الاستقرار وموضع الاستقرار وزمان ذلك ومتى يكون.
8- وقال: (ومستودعها) بعد الموت وحيث تتفرق أجزاؤها.
فعلم كل أحوالها من السكون والحركة في الحياة وقبل الحياة وبعد الموت.
وقد تقول: إنه ذكر المستقر والمستودع، والمستقر هو موضع الاستقرار، والمستودع حيث تهلك وحيث مدفنها، ولكنه لم يذكر هنا أنه يعلم مكان تحركها.
فنقول: لما قال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} دل ذلك على أنه يوصله إليها حيث كانت، متحركة أو ساكنة، فشمل علمه كل شيء من أحوالها.
9- وقال (كل) وهي أدل لفظة على العموم، أي كل دابة وكل أحوالها وكل شيء عنها وما ضمن لها من رزق إنما هو مدون في كتاب.
10- (في كتاب) أي مدون ومسطور قبل الخلق، وذلك يدل على عظيم علمه وقدرته، فإنه علم كل شيء قبل وجوده، وإن كل شيء يكون على ما دون. وذلك يدل على عظيم العلم والقدرة.
11- وقال: (مبين) أي مبين كل شيء عنها بالتفصيل.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 25 إلى ص 30.
(1) روح المعاني 12/2.
(2) البحر المحيط 5/204.
(3) انظر الكشاف 2/91، البحر المحيط 5/204.