عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٥﴾ ﴾ [هود آية:٥]
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5]
قيل: إن بعض المنافقين "كان إذا مر بالرسول ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يرى الرسول ...
وقيل: فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول ولا يدخل أسماعهم القرآن" (1).
ومعنى (ثنى رأسه) طواه.
"وقيل: إن هذه الآيات نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله تطامنوا وثنوا صدروهم كالمتستر، وردوا اِليه ظهورهم، وغشوا وجوهم بثيابهم تباعدًا منهم وكراهية للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفي عليه أو عن الله تعالى، فنزلت الآية" (2).
وذكر أنه حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، ليدل على أنه يراهم ويراقبهم ويعلم فعلهم ونواياهم.
فأفاد التعبير الرؤية والمراقبة والعلم وليس مجرد العلم من دون رؤية ومراقبة.
وأفاد أنه حين يفعلون هذا الفعل يعلم ذلك ويعلم لمَ فعلوه؟
ولئلا يظن أن عمله محصور فيما يفعل من ظواهر الأمور، وأن عمله مقيد في ذلك الحين: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، ليدل على إطلاق علمه من غير تقييد. فدل بذلك على أنه يعلم الإعلان والإسرار على كل حال عند الفعل وقبله وبعده.
فأفاد التعبير:
1- الرؤية والمراقبة.
2- ذكر أنه حين يستغشون ثيابهم يعلم أي في وقت الفعل لا بعده بعد التأمل والتفكير أو الاستفسار أو مجيء الخبر أو ظهور ما يدل على ذلك فيما بعد.
وقوله {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيه احتمالان:
الأول: أن تكون (ما) مصدرية، أي يعلم أسرارهم وإعلانهم.
والأخر: أن تكون اسمًا موصولًا. والمعنى أنه يعلم الذي يسرونه والذي يعلنونه من الأمور.
والمعنيان مرادان، فإنه يعلم الإسرار والذي يسرونه، ويعلم الإعلان يعلنونه.
وهذا من التوسع في المعنى، ولو ذكر العائد فقال: (ما يسرونه وما يعلنونه)
لدل على شيء واحد وهو الاسم الموصول. فكان ما ذكره أولى لأنه عَمَّ المعنيين.
لقد قال هنا: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، وقال في النمل: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] فذكر الإخفاء دون الإسرار، ذلك أن الإسرار قد يكون في النفس كما قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77].
وقد تسره إلى غيرك، قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3]، وقال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]،
وقال: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62].
وغالبًا ما يكون في الفعل والقول. جاء في (المفردات في غريب القرآن): "الإسرار خلاف الإعلان. قال تعالى: {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} ... ويستعمل في الأعيان والمعاني ...
وأسرت إلى فلان حديثًا: أقضيت إليه في خفية. قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] ...
فإن الإسرار إلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه بالسر وإن كان يقتضي إخفاءه عن غيره. فأذن قولهم: (أسرت إلى فلان) يقتضي من وجه الإظهار ومن وجه الإخفاء" (3).
وفي (لسان العرب): "أسر إليه حديثًا أي أفضى" (4).
أما الإخفاء فكأنه أخفى من السر. قال تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه: 7].
وقد يكون في الأشياء التي تسترها عن الناظر من الحاجات والبضائع، تقول: (أخفيت البضاعة تحت الأرض أو في صندوق) أي سترتها.
جاء في (المفردات في غريب القرآن) : "خفي الشيء خفية إذا استتر ... وأخفيته: أوليته خفاء وذلك إذا سترته. ويقابل به الإبداء والإعلان" (5).
أما قوله تعالى في النمل: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] دون (ما تسرون وما تعلنون) فالسياق يوضح ذلك. قال تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ذلك أنه ذكر أنه يخرج الخبء. أي ما هو خافٍ أو مخفى.
والخبء "يقال لكل مدخر مستور" (6). و"خبأ الشيء يخبؤه: ستره ... الخبء كل ما غاب" (7).
فلما ذكر المخبوء ناسب ذكر الإخفاء لأن المخبأ مخفي.
وقال تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1].
فقال: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} بعد قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ} ولم يقل: (وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم) ذلك لأنه أفاد أنه يعلم الدافع الذي أخفوه في أنفسهم من هذا الإسرار. فإنك قد تسر شيئًا لشخص وأنت تبتغي غرضًا من ذلك تخفيه نفسك، فربنا يعلم ذلك الأمر وماذا أخفيت. ولو قال: (وأنا أعلم بما أسررتم) لكان ذلك ينصرف إلى إسرارهم بالمودة دون الغرض الذي يخفيه أصحابه.
وقال سيدنا إبراهيم: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} [إبراهيم: 38].
دون (ما نسر وما نعلن) ذلك لأنه قال بعدها: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
وقال في موطن أخر: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]. دون (ما يسرون) أو (ما يخفون) وذلك لسبب أخر. فإن (الكِنّ) هو ما تحتفظ فيه من الأشياء التي تريد صونها. والكِنّ "ما يحفظ فيه الشيء، يقال: كننت الشيء كَنًّا جعلته في كِنَ وخُصّ. وكننت بما يُستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام...
وأكننت بما يستر في النفس... وجمع الكِنَ أكنان.
والكنان: الغطاء الذي يكن فيه الشيء" (8).
وفي (لسان العرب): "الكِنّ والكِنّة والكِنان: وقاء كل شيء وستره... كننت الشيء أي جعلته في كن... والأكنة: الأغطية" (9).
قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور: 24]، وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81] أي وقاء وسترًا تحتمون بها وتحفظون أنفسكم.
وقال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. أي في صناديق مقفله فلا يصل إليها شيء من دعوته.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وذات الصدور "الأسرار المستكينة فيها أو القلوب التي في الصدور" (10).
وقال (عليم) دون (يعلم) للدلالة على ثبوت العلم ودوامه.
جاء في (روح المعاني): "وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالمًا بذلك. وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي" (11).
وقال: (عليم) دون (عالم) أو (علام)، لأن كلمة (عالم) خُصت في الاستعمال القرآني بعلم (الغيب) مفردًا، أو (علم الغيب بشهادة)، ولم تستعمل في غير ذلك، وذلك نحو قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن، 26]، وقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].
وأما (علّام) فقد خص استعمالها متعقلة بـ (الغيوب) جمع الغيب نحو {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109، 116] وذلك أنه لما كان هذا الوصف للمبالغة والتكثير جاء بالجمع معه مناسبة للتكثير.
وأما (عليم) فقد استعملها غير مختصة بمعلوم، معين، فقد يستعملها مطلقة من كل متعلق نحو {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، أو يجعلها متعلقة بكل شيء فلا تترك شيئًا إلا شملته نحو {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، أو يعلقها بما ارتبط بالمجموع وذلك نحو {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]، أو يعلقها بما ارتبط بالمجموع وذلك نحو {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] فإنه جمع الفاعلين فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ}، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] فذكر الصدور وليس صدرًا واحدًا (12).
فاتضح ما قلناه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 19 إلى ص 25.
(1) البحر المحيط 5/202.
(2) البحر المحيط 5/203.
(3) المفردات في غريب القرآن (سرر).
(4) لسان العرب (سرر).
(5) المفردات في غريب القرآن (خفي).
(6) المفردات (خبء).
(7) لسان العرب (خبأ).
(8) مفردات الراغب (كنّ).
(9) لسان العرب (كنن).
(10) روح المعاني 11/211.
(11) روح المعاني 11/211.
(12) انظر كتابنا (من أسرار البيان القرآني)