عرض وقفة أسرار بلاغية
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4].
قدم الخبر الجار والمجرور (إلى الله) على المبتدأ (مرجعكم) للدلالة على القصر والاختصاص، فإن المرجع إليه حصرًا لا إلى غيره (1).
وقال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} ولم يقل: (إلى الله مرجعكم جميعًا) كما قال في آيات أخرى (2)، ذلك أنه حيث ذكر الجميع ذكر جهات متعددة مختلفة ومعتقدات متباينة، بخلاف أية هود هذه فإنه ذكر جهة واحدة.
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
فقال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} ذلك أن السياق الذي جرى فيه ذكر هذه الآية في ذكر معتقدات وأحوال اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، وذلك من الآية في ذكر الحادية والأربعين.
ثم يستمر الكلام على الملل المختلفة فناسب ذكر الجميع.
ونحو ذلك ما جاء في الآية الخامسة بعد المائة من سورة المائدة فإنها في سياق ذكر أكثر من جهة. فإن السياق في ذكر الكافرين والمؤمنين.
فقد جاء قبل هذه الآية قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون} [المائدة: 103 – 104].
ثم التفت إلى الذين آمنو فخاطبهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
أي إلى الله مرجعكم جميعًا من الكافرين والمؤمنين، فناسب ذكر الجميع.
وكذلك سياق أية يونس فإنه في ذكر أكثر من جهة. فهو في سياق جهتي الكافرين والمؤمنين.
فقد قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2].
فجعلهم قسمين:
القسم الأول: وهم المؤمنين الذين بشرهم ربهم.
والقسم الآخر: هم الكافرون الذين قالو إن هذا لساحر مبين.
ثم قال بعد ذلك: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4].
فذكر المؤمنين والكافرين.
أما آية هود هذه فإن المخاطبين فيها صنف واحد.
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 1 – 4].
فالمخاطبون إما أن يستغفروا ربهم فيمتعهم أو يتولوا فيعذبهم، ولم يجعلهم قسمين: قسمًا مؤمنًا وآخر كافرًا. فهم إما أن يؤمنوا أو يتولوا.
في حين أن كل الذين قال فيهم: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} كانوا أكثر من صنف وأكثر من جهة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 16 إلى ص 19.
(1) انظر تفسير الرازي 18/317.
(2) انظر المائدة: 48، 105، يونس: 4.