عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿١﴾    [هود   آية:١]
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] 1- تبدأ السورة التي قبلها، أعني سورة يونس بقوله: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }فقد وصفت الآية الكتاب بأنه (حكيم)، وذكر في هذه السورة، أي سورة هود، من أحكمه فقال: إن آياته أحكمت {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}. فالذي أحكمها هو الحكيم. وقال في بداية السورة التي بعدها وهي سورة يوسف: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}. فإنه لما ذكر في سورة هود أن آياته أحكمت وفصلت دل ذلك على أنه مبين. فإنه لا يكون بعد الاحكام والتفصيل اِلا مبينًا. فأي كتاب أحكم وفصل كان مبينًا. فتناسبت بدايات السور المتتابعة تناسبًا بديعًا. 2- قال في خاتمة السورة التي قبلها وهي سورة يونس: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. وما يوحي اِليه هو الكتاب الذي أحكمت آياته، فناسب قوله: {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وصف الكتاب باْنة أحكمت آياته. فخير الحاكمين هو الذي أحكم آياته. وناسب قوله: {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في أية يونس قوله في أيه هود: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فالحكيم قد يكون بمعنى الحاكم.وقد يكون من المحكمة، فالحكيم على هذا هو خير الحاكمين لأنه حكيم وحاكم. ولا شك أن الحاكم إذا كان ذا حكمة كان خير الحاكمين.فناسب مفتتح السورة خاتمة السورة التي قبلها.3- وناسب قوله تعالى في مفتتح السورة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} قوله في خاتمة السورة: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. فإنه ناسب تبليغه لعباد الله في أول السورة بألا يعبدوا إلا الله أن يؤمر هو أيضًا بعبادة ربه بقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فكلاهما مأمور بالعبادة، المبلغ والمبلغ. 4- وناسبت الآية الأولي من السورة، أي قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} قوله في خواتم السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. فإنه قص عليه ذلك في الكتاب الذي أحكمت آياته.ثم إنه فصل ما جاء فيه، وما جاء فيه هو الحق والموعظة والذكري. فهذا تفصيل لما جاء فيه.ثم إن الذي يختار من القصص ما يثبت به الفؤاد إنما هو حكيم خبير. والذي يأتي بالحق والموعظة والذكرى إنما هو حكيم خبير.فناسب مفتتح السورة خاتمتها أبدع مناسبة. ثم ننظر في تأليف التعبير:فقد ذكر أنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، وذكر الذي أحكمه وفصله. فالذي أحكمه هو الحكيم الخبير، وهل هناك من يفصل أفضل منه؟ولم تجتمع هاتان الصفتان في الكتاب، أي الإحكام والتفصيل، في غير هذا الموضع، وإنما قد يوصف الكتاب بأنه حكيم كما في قوله تعالى: {} [يونس: 1] أو أنه مفصل كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114].ثم ذكر أن هذا الإحكام والتفصيل إنما هما من لدن حكيم خبير. فجمع الله لنفسه وصفي الحكمة والخبرة، وكل من الوصفين من أوصاف الكمال. ثم ما أجل هذين الوصفين ههنا! فالحكيم هو ذو الحكمة البالغة وهي إحسان القول والعمل ووضعهما الذي ينبغي أن يكونا فيه. والخبير هو الذي يعلم بواطن الأمور وخبرها. فما أجل هذا الكتاب الذي أحكمه وفصله الحكيم الخبير! وقد يكون لفظ الحكيم من معنى الحكم وهو القضاء، فيكون المعنى أنه أحكم آياته الحاكم الذي بيده الأمر فدل ذلك على علو مكانته. لأن أهمية الكتاب إنما تكون في أمرين: في الجهة التي أصدرته، فكتاب الموظف الصغير غير كتاب المدير، وهذا الأخير غير كتاب الوالي، وهذا غير كتاب السلطان أو الخليفة. فكلما علت جهة من أصدره علا هو أيضًا على حسب تلك الجهة. والأمر الأخر الذي يدل على أهمية الكتاب هو محتواه، فإذا كان من أصدره حكيمًا علت جهته أيضًا. وهذا الكتاب إنما دل على علوه كل مقتضيات العلو والرفعة. فإنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، وهو من لدن حاكم وحكيم وخبير. ومحتواه طلب توحيد العبادة لخالق الكون. وقد أرسله هذا الخالق منه إلى من يبلغه عنه. فأية رفعة أعلى من هذه؟ ولما كان هذا شأن الكتاب ومن أنزله ذكر تعظيم هذا الكتاب وعلوه في السورة في أكثر من موضع، وتحدي المعاندين لأن يأتوا بسور من مثله في أكثر من موضع. فقد قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]. وقال: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]. وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]. وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود : 49]. فذكر أن ما ذكره من قصة نوح إنما الغيب ما كان يعلمها هو ولا قومه من قبل هذا، أي إن هذا أول علمهم به. وهل أدل من ذلك على أن هذا الكتاب إنما هو علم الله وأنه أنزله إليه؟ وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]. وقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. فهل هناك أجل من هذا الكتاب؟! إن معنى {أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ } "نظمت نظمًا رصينًا لا يقع فيه نقض ولا خلل" (1). "وإن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة" (2). ومعنى (فصلت) أنه فصل فيها ما يحتاج إليه العباد (3). وجاءت (ثم) لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما معنى (ثم)؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 5 إلى ص 9. (1) الكشاف 2/98، وانظر البحر المحيط 5/200. (2) تفسير الرازي 18/313. (3) الكشاف 2/89 وانظر تفسير الرازي 18/131. (4) الكشاف 2/90 وانظر البحر المحيط 5/200.