عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٢٤﴾ ﴾ [الحديد آية:٢٤]
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
هذا وصف آخر للذين لا يحبهم الله، وهم الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، لا يكتفون بذاك بل يأمرون الناس بالبخل، ولعل من دواعي ذلك أنهم لا يريدون أن يذكر غيرهم بخير فيتساوون في الوصف فلا يكون أحد أفضل من أحد، كما أخبر ربنا عن المنافقين بقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
و{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل على رأي الأكثرين لاختلاف التابع والمتبوع تعريفًا وتنكيرًا، ونعت عند من يجيز أن تنعت النكرة المخصصة بالمعرفة، نظير قولهم في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ } [الهمزة: 1 - 2].
ومن يتول عما أمر الله به فإن الله غني عنه. وقال: {هُوَ الْغَنِيُّ} ولم يقل: (غني) لأنه لا غنى على الحقيقة سواه، فعرف الوصف بأل وجاء بضمير الفصل للدلالة على الحصر.
وقد تقول: لقد قال الله في مكان آخر: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] فلم يعرف الغني فما السبب؟
فنقول: إن السياق في كل من الآيتين مختلف، فإنه لم يذكر في سياق آية لقمان ملكًا له ولم يذكر أنه آتى الناس شيئًا فلم يعرف الغني.
أما في سياق هذه الآية فإنه ذكر أنه هو الذي آتانا فقال: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} فإذا كان الإنسان يرى أنه استغنى أو يرى أنه غني فذاك مما آتاه الله، فالله إذن هو الغني وحده.
وهذه الآية في التوكيد والقصر نظير قوله في سورة لقمان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الآية: 26] فإنه لكا ذكر ملكه وأن له ما في السماوات والأرض أكد غناه وقصره عليه فعرف الغني وجاء بضمير الفصل.
ولم يكتف بوصف ذاته العلية بالغني بل قال: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فهو المحمود في غناه والمحمود في صفاته كلها على جهة الثبوت. وهو تعريض بالأغنياء المذمومين الذين لا يحمدهم أحد ولم يأتوا في غناهم بما يحمدون عليه.
جاء في (الكشاف): "{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} كأنه قال: (لا يحب الذين يبخلون) يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا، فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبونهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم وبطرهم عند إصابته، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته هما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 405 إلى ص 406.
(1) الكشاف 4/66.