عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾    [الحديد   آية:٢٢]
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } ذكر أنه ما حلت من مصيبة في الأرض أو في نفس إلا وهي مكتوبة مقدرة قبل وقوعها. ومن الملاحظ أن القرآن لا يستعمل مع المصيبة إلا الفعل (أصاب) أو ما تصرف منع ولم يستعمل فعلًا آخر فلم يقل مثلًا: ما حلت من مصيبة أو ما وقعت أو نحو ذلك – والله أعلم – أن أصل (أصاب) من الإصابة ضد الخطأ، فأنت تقول: أصاب فلان الهدف، أي لم يخطئه، وأصاب فلان كلامه، أي لم يخطئ، فكأنه سبحانه يريد أن يبين لنا أن المصائب هي مقدرة وقد أصابت مكانها المقدر لها ولم تخطئه. والمصيبة في الأرض نحو الآفات والجدب والكوارث وغيرها، وفي الأنفس نحو الأدواء والأمراض والموت نحوها. وذكر المصيبة في الأرض والأنفس، وقدم الأرض على الأنفس لأنها موجودة قبل وجود الإنسان، وقد وقعت فيها المصائب قبل أن يخلق الإنسان. وقال: {مِنْ مُصِيبَةٍ} بـ (من) الاستغراقية للدلالة على أنه قدرها كلها على وجه الاستغراق فلا تند عن ذلك مصيبة مهما عظمت أو هانت. وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} فأطلق الفعل ولم يقيده بمفعول معين، فلم يقل مثلًا: (ما أصابكم من مصيبة) لأن الكلام مطلق وليس خاصًا بالمخاطبين. بخلاف ما جاء مثلًا في سورة الشورى في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ} فعدى الفعل إلى ضمير المخاطبين؛ وذلك لأن الكلام يتعلق بهم ولذلك قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . ومثل ما جاء في سورة الحديد من الإطلاق قوله تعالى في سورة التغابن: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] فإنه أطلق الفعل لأنه أراد الإطلاق والعموم ولم يقيده بمصاب معين. وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ولم يقل: (من قبل أن تقع) ليدل بذلك على عمله وقدرته وعلى أنه هو الذي أوجدها. ولو قال (من قبل أن تقع) لدل على علمه بها ولم يدل على أنه هو الذي أوجدها. وقد دل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} على التوحيد أيضًا ونفي الشرك؛ لأن كل ما يحدث من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما برأها هو وليس غيره، فدل ذلك على عدم الشريك، ولو قال: (من قبل أن تقع) لم يدل على ذلك صراحة. وقوله: {فِي كِتَابٍ} يدل على القضاء والقدر، وأن كل شيء مدون قبل وقوعه، وأن الأمور لا تجري اعتباطًا دون علم مسبق، مما يدل على بالغ حكمته سبحانه. وضمير النصب في (نبرأها) يحتمل أنه يعود على المصيبة أو على الأنفس أو على الأرض أو على جميع ذلك (نبرأها) يحتمل أنه يعود على المصيبة أو على الأنفس أو على الأرض أو على جميع ذلك (1). وهو الأولى، أي إن ما يقع من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما هو مدون في كتاب قبل خلق الأرض، وقيل خلق الأنفس، وقبل وقوع المصيبة. وجمع ضمير الفاعل في الفعل (نبرأها) للتعظيم، ثم عقب على ذلك بالإفراد فقال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ليدل على أنه واحد لا شريك له، وهو مما جرى عليه التعبير في القرآن كما أشرت أكثر من مرة، فإنه لم يأت بضمير التعظيم مرة إلا وسبقه أو أتبعه بالإفراد. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قدم الجار والمجرور {عَلَى اللَّهِ} على خبر إن {يَسِيرٌ} للدلالة على الحصر، أي أن ذلك على الله وحده يسير لا على غيره. أما غيره فلن يستطيع ذلك. ولو قال: (إن ذلك يسير على الله) لدل على أنه يسير على الله ليس في حصر اليسر عليه. فقولك: (هو هين علي) يعني أنه هين عليك ولا يعني أنه ليس هينًا على غيرك. بخلاف ما لو قلت: (هو علي هين) فإنه حصر الهون عليك لا على غيرك. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 399 إلى ص 401. (1) انظر فتح القدير 5/249.