عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿٢١﴾ ﴾ [الحديد آية:٢١]
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}
بعد أن ذكر الدنيا وعاقبتها دعا إلى ما هو خير وأبقى فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ }، وقدم المغفرة على الجنة لأنها تسبقها وهي سبب دخولها.
وقال: {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فذكر أن المغفرة من ربنا، وقال في الآية التي قبلها: { وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ }فذكر أن المغفرة من الله. وسبب هذا الاختلاف – والله أعلم – أنه في هذه الآية أمر عباده بالمسابقة فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فناسب أن يقول لهم إن المغفرة من ربكم فيضيف الربوبية إليهم. فهو ربهم ومتولي أمرهم وهو يرشدهم إلى ما هو خير لهم.
أما الآية التي قبلها فهي وصف للحياة الدنيا وليست خطابًا لأحد، فذكر أنها كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا إلى آخر ما ذكر، فناسب أن يقول: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ}.
وقد تقول: لقد قال في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]
وثمة اختلاف ظاهر بين الآيتين على ما بينهما من تشابه كبير نجمله بما يأتي:
آية الحديد
آية آل عمران
سابقوا
وسارعوا
كعرض السماء والأرض
عرضها السماوات والأرض
(بذكر أداة التشبيه وإفراد السماء)
(بحذف أداة التشبيه وبجمع السماء)
أعدت للذين آمنوا بالله ورسله
أعدت للمتقين الذين ينفقون ...
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
- -
والله ذو الفضل العظيم
- -
فما سر هذا الاختلاف؟
ونقول: لقد بينا ذلك في كتابنا (التعبير القرآني) (1). فذكرنا أن كلمة (السماء) تستعمل في القرآن الكريم على أحد معنيين:
إما أن تكون لواحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، وإما أن تكون لما عدا الأرض مما علا، كالجو والسحاب والمطر والسقف والسماوات عمومًا، وذلك كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 24] والسماء هنا بمعنى السحاب، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ} [الروم: 48] أي يبسطه في الجو، وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل: 79]، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] أي يأخذ في العلو والارتفاع، وقوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وهي هنا بمعنى المطر، وقوله: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وهي هنا عامة تشمل السماوات السبع وغيرها.
فالسماء بالمعنى العام متسعة اتساعًا كبيرًا، وهي تشمل السماوات السبع وغيرهن مما علا وارتفع عن الأرض.
فلما جاء بالسموات قال: {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} فحذف كاف التشبيه، ولما جاء بالسماء التي هي متسعة اتساعًا كبيرًا والسماوات جزء منها قال: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فجاء بكاف التشبيه.
"ثم ألا ترى كيف قال الله تعالى في كل الآيتين؟ ففي آية السماوات قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وفي آية السماء قال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وذلك لأن المتقين أخص من المؤمنين بالله ورسله، لأن المتقي لا يكون إلا يكون إلا مؤمنًا أما المؤمن بالله ورسله فقد لا يكون متقيًا، فالمؤمنون بالله ورسله أكثر من المتقين، فجاء للطبقة الواسعة وهم المؤمنون بالله ورسله بذكر صفتها الواسعة {كَعَرْضِ السَّمَاءِ}، وجاء مع الطبقة الخاصة الذين هم أقل ممن قبلهم وهم المتقون بفظ (السماوات) التي هي أقل سعة من السماء، فناسب بين السعة والعدد.
ثم انظر كيف زاد في آية الحديد قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وذلك لما زاد تفضله على الخلق فوسع دائرة الداخلين في الجنة، وجعلها في المؤمنين عامة ولم يقصرها على المتقين منهم، ذكر هذا الفضل العظيم في آية الحديد.
ثم انظر كيف أنه لما ذكر الجنة بأوسع صفة لها وذكر كثرة الخلق الداخلين فيها وذكر فضله العظيم على عبادة قال: (سابقوا)، وفي الآية الأخرى قال: (سارعوا)، وذلك لأن كثرة الخلق المتوجهين إلى مكانٍ ما تستدعي المسابقة إلية لا مجرد المسارعة.
فانظر كيف ذكر في آية الحديد (المسابقة) وهي تشمل المسارعة وزيادة، وذكر (السماء) وهي تشمل السماوات وزيادة، وذكر المؤمنين بالله ورسله وهم يشملون المتقين وزيادة، وزاد فيها ذكر الفضل غلى المغفرة والجنة، فجعل في كل موضع ما يناسبه من الألفاظ فجعلت حكمة الله" (2).
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن كل آية مناسبة للسياق الذي وردت فيه، فإنه تقدم آية الحديد المسابقة في أمور الدنيا من لعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، فإن اللعب قد تكون فيه مسابقة، والزينة قد تكون فيها مسابقة، والتفاخر إنما هو مسابقة بين المتفاخرين، والتكاثر في الأموال إنما هو تبارٍ وتسابق في جمعها، فناسب أن يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} فنبههم على ما تجدر فيه المسابقة.
ولم يتقدم آية آل عمران ما يدل على المسابقة، وإنما تقدمها النهي عن أكل الربا و الأمر باتقاء النار والأمر بطاعة الله والرسول، فناسب الأمر بالمسارعة وعدم التوان في ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 130 - 133].
ولما تقدم ذكر متعاطفات في آيات آل عمران من نحو قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا .... وَاتَّقُوا اللَّهَ .... وَاتَّقُوا النَّارَ .... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ....} ناسب أن يعطف عليها فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. ولما يتقدم آية الحديد ما يعطفها عليه قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} من دون ذكر لواو العطف.
ولما تقدم آية آل عمران الأمر بالتقوى فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ناسب أن يقول في الجنة إنها {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين}
ولما تقدم آية الحديد ذكر المؤمنين بالله ورسله فقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ناسب أن يقول إنها: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} .وقال في آيات آل عمران: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ....}
وذلك أنه تقدم الآية النهي عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة فدعا إلى الإنفاق في السراء والضراء، فناسب أن يذكر أن الجنة للمنفقين وهم الذين يخرجون من أموالهم ابتغاء مرضاة الله في الرخاء والشدة لا لمن يأكل أموال الناس بغير وجه حق. فالمؤمنون ينفقون في الشدة، وأولئك يأكلون مال من وقع في الشدة فاضطر إلى الاستدانة.
وكذلك كل ما ذكر من صفات أخرى من نحو قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} كل ذلك تقدمه ما يناسب ذكره. ولم يتقدم آية الحديد شيء من ذلك، ولولا خشية الإطالة والابتعاد عما نحن بصدده لبينت ذلك بالتفصيل.
وختم آية الحديد بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لما ذكر تفضله على عبادة فذكر أن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ولم يذكر شيئًا آخر مع الإيمان حتى أنه لم يذكر العمل وذلك أعظم الفضل. جاء في (تفسير الرازي): "قوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فيه أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر... ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}" (3).
هذه علاوة على ما ورد في السورة من أفضال أخرى من مضاعفة الأجور وأنه يؤتي المؤمنين كفلين من رحمته ويجعل لهم نورًا يشمون به ويغفر لهم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الآية: 28].
وختم السورة بفضله العظيم فقال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فناسب كل تعبير موضعه من كل وجه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 393 إلى ص 399.
(1) التعبير القرآني – طبعة دار ابن كثير ص 53 وما بعدها.
(2) التعبير القرآني – طبعة دار ابن كثير ص 53 – 54.
(3) تفسير الرازي 29/236.