عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿١٥﴾ ﴾ [الحديد آية:١٥]
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
ذكر الفدية لأنه تكرر في السورة ذكر الإنفاق والدعوة إليه وذكر القرض الحسن والبخل والذين يأمرون به، فقال: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} وقد كان بإمكانكم أن تفدوا أنفسكم في الدنيا بالإنفاق في سبيل الله فلم تفعلوا. والظاهر أن الفدية ههنا تعني المال وإن كانت الفدية عامة في كل ما يفتدى به، فقد قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
غير أن الذي يرجح معنى المال قوله: (لا يؤخذ) ولم يقل: (لا تقبل) والذي يؤخذ هو المال المناسب لجو السورة وما شاع فيها من ذكر للإنفاق والقرض الحسن، والله أعلم.
وقال: {لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مع أن المنافقين من الذين كفروا، ذلك أن المقصود بـ (الذين كفروا) هم الكافرون من غير وهو المنافقين وهم الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه (1). فلا تؤخذ الفدية لا من المنافقين ولا من سائر الكافرين الآخرين.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي هي دار إقامتكم والمأوى الذي تأوون إليه، والمأوى يعني الملجأ والمكان الذي يحتمى به، فالنار ملجؤهم الذي يأوون إليه.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي هي التي تتولى أمركم فذكر المأوى والمولى، ذلك أن الشر إنما يأتيهم من جهتين: المأوى والمولى. فقد يكون المأوى سيئًا غير أن المولى حسن، وقد يكون العكس، أما هؤلاء فالنار مأواهم ومولاهم.
وقيل: إن معنى {هِيَ مَوْلَاكُمْ}: "هي أولى بكم ... وحقيقة مولاكم: محراكم ومقمنكم، أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ... ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي لا ناصر لكم غيرها، والمراد نفي الناصر على البتات. ونحوه قولهم: (أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع)، ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار" (۲).
ويجوز أن يكون اشتقاق (المولى) من الولي وهو القرب، فيكون معنى مولاكم، أي مكانكم عن قرب (3).
والمعنيان مرادان، فهي تتولى أمرهم وهي مكانهم عن قرب.
ولم يرد في جهنم (هي مولاكم) إلا في هذا الموطن، وذلك لسببين والله أعلم:
السبب الأول: أنه ذكر في آية الحديد هذه أن المنافقين تربصوا وغرتهم الأماني حتى الموت، فبعد طول الأمل والتربص الطويل كانت النار أقرب إليهم، فهم كانوا يستبعدونها وهي أقرب إليهم وأدنى من آمالهم.
والسبب الآخر: أن كل الآيات الأخرى التي ورد فيها (مأواه جهنم وبئس المصير) ونحوها إنما قيلت وهم في الدنيا، والدنيا لا تزال غير منقضية، وأما هذا القول فإنه قيل وهم في الآخرة وقد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وأتاهم العذاب من قبله فالنار قريبة منهم فقال: {هِيَ مَوْلَاكُمْ}.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وهذه أنسب خاتمة لهم، فقد كانوا في ترقبهم وأمانيهم ينتظرون المصير الحسن والمستقبل المشرق، فكانت لهم الظلمة والمصير الأسوأ.
إن هذه الآيات يتجلى فيها إكرام المؤمنين وإبعاد النصب عنهم، بخلاف المنافقين فإنها يتجلى فيها إرهاقهم وإهانتهم والتهكم بهم.
فقد قال في المؤمنين:
1- {يَسْعَى نُورُهُمْ}: ولم يقل: (يمشي نورهم) للدلالة على الإسراع بهم إلى الجنة وهذا إكرام، فإن الإبطاء إلى السعادة ليس كالإسراع إليها، وفي الإسراع ما فيه من الإكرام.
2- أنه أسند السعي إلى النور ولم يسنده إليهم، فلم يقل: (يسعون) لأن السعي قد يجهدهم، فأسنده إلى النور، فدل على أنه يسعى بهم. فهو لم يقل: إنهم يمشون؛ لأن المشي قد يكون فيه إبطاء، ولم يقل: (يسعون) لأن سعيهم قد يكون فيه إجهاد، ولكنه أفاد السعي من ذكر سعي النور.
3- قال: {يَسْعَى نُورُهُمْ} فذكر الفاعل ولم يقل (يسعى بهم) بالبناء للمجهول وحذف الفاعل فلا يدرى أيسعون في ظلمة أم في نور، فذكر أن لهم نورا يسعى.
4- أضاف النور إليهم، وهذا فيه أمران:
الأول: الدلالة على أن هذا النور إنما هو نور المؤمن وهو يعطى على قدر عمله، فهو إهابة بالمؤمن ليعظم نوره ويكثره.
ومن ناحية أخرى لم يقل: (يسعى النور) فيجعله عامًا فيستضيء به المنافقون، فجعل لكل مؤمن نوره الذي يستضيء به فلا يشاركه فيه غيره. فهذا إكرام للمؤمنين وإرهاق وحسرة على المنافقين.
5- قال : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، ومعنى {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم، غير أنه لم يقل: (أمامهم) لأن الأمام قد يكون بعيدًا عن الشخص، فقد تسأل عن قرية فيقال: هي أمامك. وقد يكون النور أمامك ولا تتمكن من الاستضاءة به لبعده فقال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.
6- وقال: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} ولم يقل: (عن إيمانهم) لأن معنى بأيمانهم أنه ملتصق بالأيمان وليس مبتعدًا عنها، كما قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، ولو قال: (عن أيمانهم) لدل أنه متراخ عن أيمانهم أو منحرف عنها؛ لأن (عن) تفيد المجاوزة، والباء تفيد الإلصاق.
7- قال: {بُشْرَاكُمُ} ولم يقل: (يقال لهم بشراكم) لأنه أراد أن يجعل المشهد حاضرًا ليس غائبًا يسمع فيه التبشير ولا ينقل.
8- وأضاف البشرى إلى ضمير المخاطبين لتنال البشري كل واحد، ولم يقل: (البشرى جنات) وهو إكرام آخر.
9- وقال: {الْيَوْمَ} للدلالة على قرب البشرى وأنها ليست من الوعد البعيد الوقوع. والبشرى كلما كانت أقرب كانت أحب وأدعى إلى المسرة.
10- وقال: {جَنَّاتٌ} ولم يقل: (جنة) للدلالة على أن لكل منهم جنة أو أكثر، كما قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
۱۱- قال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ولم يقل: (فيها أنهار) وذلك للدلالة على أنها جارية وليست راكدة، والركود مظنة الأسون، هذا إضافة إلى التمتع بمشهد الجري، ولذلك عندما لم يذكر الجري في قوله: {جَنَّاتٌ} [محمد: 15] قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} لينفي عنها صفة الأسون، ولما ذكر الجري لم يذكر ذلك لأنه لا حاجة إليه.
12- وقال: {الْأَنْهَارُ} ولم يقل: (نهر) للدلالة على كثرة الأنهار.
۱۳- قال: {خَالِدِينَ} وهي بشرى أخرى، وقال: {فِيهَا} للدلالة على أن الخلود في الجنات وليست الجنة مرحلة أو مكانًا ينتقلون منه إلى ما هو أقل سعادة.
14- وقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ولم يقل: (ذلك فوز عظيم) وإنما عرف الفوز بأل للدلالة على القصر وعلى أنه لا فوز أعظم منه. ثم جاء بضمير الفصل للزيادة في التوكيد.
ثم إن الأمر يعظم ويكبر بعظم قائله، فإن الفوز الذي يذكره طفل أو رجل من ضعفة الناس يختلف عن الفوز الذي يذكره قائد أو ملك. فكيف وقد ذكره ملك الملوك ووصفه بالعظمة وقصره وأكده؟!
15- ذكر أن المنافقين يقولون: {انْظُرُونَا} ولم يقولوا: (انتظرونا) فإنهم يدركون أنه لا يسعهم الانتظار، وإنما طلبوا منهم مهلة قصيرة لينظروهم، أي ينتظروهم. وفي هذا دلالة على الإسراع بهم إلى الخير والسعادة، فإن الذي يسرع به إلى الخير والسعادة أكرم من الذي يبطأ به.
16- ثم قال: {نَقْتَبِسْ} ولم يقل: (نقبس) والاقتباس أكثر من القبس، وذلك يدل على عظم النور الذي عندهم.
17- قال: {مِنْ نُورِكُمْ} ولم يقل: (من النور) وهذا تكريم آخر، فإن النور نورهم.
18- قال: {قِيلَ ارْجِعُوا} ولم يقل: (قالوا) لأنه أراد ألا ينشغلوا بما لا فائدة فيه من الكلام، فتكلم الملائكة أو غيرهم بالنيابة عنهم، ولم يشغلوهم بالكلام عما هو أهم ولا يرهقوهم بكثرة القيل.
19- قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} فحجزوهم عن أولئك السائلين المنافقين.
20- ثم قال: {لَهُ بَابٌ} للدلالة على أنهم غير محتجزين فيه، وإنما ينفذون منه إلى مرادهم.
21- ثم قال: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} وهو تكريم آخر، وكيف لا وهم في رحمة الله؟
أما دلالتها على إهانة المنافقين وإرهاقهم فهو أوضح ما يكون:
1- فقد ذكر أن المنافقين والمنافقات يطلبون من المؤمنين أن ينظروهم للاقتباس من نورهم، وهذا يدل على أنهم في ظلمة. وقد قيل إنهم أعطي لهم نور ثم انطفأ (4)، من باب إهانتهم وخديعتهم والاستهزاء كما كانوا يخادعون ويستهزئون في الدنيا، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. جاء في (تفسير ابن كثير): "ويقول المنافقون للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب" (6).
2- وقال: {قِيلَ ارْجِعُوا} ولم يذكر أن المؤمنين ردوا عليهم فبنى الفعل للمجهول، وقيل: إن القائل هم الملائكة، فهم الذين تولوا الرد عليهم، أما المؤمنون فلا هذا الطلب وإنما هم مشغولون بما هو أهم. وهذا إهانة للمنافقين أن يطلبوا من المؤمنين فلا يجيبوهم وإنما يعنيهم يجيبهم آخرون.
3- قال: {ارْجِعُوا} وهو إهانة أخرى.
4- وقال: {وَرَاءَكُمْ} وهو إما أن يكون ظرفًا مؤكدًا أو يكون اسم فعل بمعنى {ارْجِعُوا}، فيكون كأنه قيل لهم: ارجعوا ارجعوا، وهو إهانة ظاهرة.
5- قال: {فَالْتَمِسُوا نُورًا} وهم يعلمون أنه ليس ثمة نور وهو من باب الاستهزاء بهم.
6- وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} فحجـزوهـم عـن اللحاق بالمؤمنين، وهو إهانة ظاهرة.
7- وقال: {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهي جهتهم.
8- قال: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فذكر أنه يرفعون أصواتهم من وراء السور ينادون المؤمنين ليلتحقوا بهم ولكن حيل بينهم وبين ما يريدون.
9- وفي رد المؤمنين عليهم إهانات متعددة، فقولهم لهم: إنكم فتنتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، كل خصلة منهن إهانة وتبكيت.
10- وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} {هِيَ مَوْلَاكُمْ} {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كله إهانات وإخبار لهم بما سيلاقونه من سوء العاقبة والمنقلب، نعوذ بالله.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 365 إلى ص 372.
(1) انظر نظم الدرر 7/446.
(2) الكشاف 4/64.
(3) انظر فتح القدير 5/242.
(4) انظر تفسير ابن كثير 4/364 – 365.
(5) تفسير ابن كثير 4/365.