عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿١٣﴾ ﴾ [الحديد آية:١٣]
- ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿١٤﴾ ﴾ [الحديد آية:١٤]
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}
{يَوْمَ يَقُولُ ....} بدل من {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ ....} (1)ويجوز أيضًا أن يكون منصوبًا على تقدير (اذكر) (2) وذكر المنافقين والمنافقات ليدل على أن كل فرد من الجنسين ينال جزاءه ولا يشفع لأحدهما قرابة، فلا تغني المؤمنة عن قريبها المنافق أو قريبتها المنافقة، ولا المؤمن عن قريبه أو زوجته المنافقة. ولا تقول المنافقة إني كنت تبعًا لزوجي أو أخي أو أبي، فإن كل واحد مسؤول عن نفسه وعما قدّم أو أخر.
{انْظُرُونَا}
أي انتظرونا، غير أنهم لم يقولوا: (انتظرونا) لأن الانتظار فيه تمهل وإبطاء، والمؤمنون يسرعون أو يسرع بهم إلى الجنة، فطلبوا انتظارا قليلاً أو تمهلاً قليلاً، وقد أدركوا أنهم لو طلبوا انتظارًا لم يجابوا. ولو كان في الوقت فسحة لساغ طلب الانتظار، كما في قوله تعالى: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102] فقال {فَانْتَظِرُوا}، وقال: {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لأن في الوقت متسعًا.
جاء في (نظم الدرر): "وكأن الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما توصل المقدرة إليه خوف الفوت؛ لأن المسؤولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف" (3).
قيل: ويجوز أن يكون المعنى (انظروا إلينا) "لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به" (4).
{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}
أي "نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به" (5)، وقالوا: (نقتبس) ولم يقولوا: (نأخذ) لأن الاقتباس لا ينقص من المقتبس منه، بخلاف الأخذ فإنك إذا اقتبست من النار فإن ذلك لا ينقصها بخلاف ما إذا أخذت منها، والمعنى نستفد منه فلا ينقص فانظرونا.
وقالوا: (نقتبس) ولم يقولوا: (نقبس)؛ لأن الاقتباس أبلغ من القبس، وذلك دليل على عظم نور المؤمنين وهو لا ينقص بالاقتباس.
وقالوا: {مِنْ نُورِكُمْ} ولم يقولوا: (من النور الذي معكم) للدلالة على أنه نورهم هم، قيل: "يعطى يوم القيامة كل أحد نورًا على قدر عمله ... ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} كقبس النار" (6).
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}
لم يقل: (قالوا) بل (قيل): "ويظهر من إسناد (قيل) بصيغة المبني للمجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين، وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين. وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكمًا، إذ لا نور وراءهم" (7).
و(وراءكم) إما أن يكون ظرفًا مؤكدًا، فإن الرجوع إنما يكون إلى الوراء، وإما أن يكون اسم فعل بمعنى (ارجعوا) فيكون أيضًا مؤكدا لفعل الأمر (8).
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}
قيل: الباء في (بسور) زائدة للتوكيد، والتقدير: ضُرب بينهم سور (9)، وقيل: ضمن (ضرب) معنى (حجز) أي حجز بينهم بسور ولذلك عدي بالباء "أي ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين" (10)، والسور: هو ما أحاط بالشيء من بناء وغيره.
وقال: {لَهُ بَابٌ} لئلا يظن أن المؤمنين محتجزون فيه، وإنما ينفذون منه إلى مرادهم وهو الطريق إلى الجنة والله أعلم. فالمنافقون لا يتمكنون من الدخول فيه ليلتقوا بالمؤمنين، والمؤمنون يتمكنون من الخروج منه.
ووصف السور بأن باطنه فيه الرحمة وهي الجهة التي فيها المؤمنون، وأن ظاهره يأتي العذاب من جهته للمنافقين ولمن حقت عليه كلمة العذاب. وهذا السور - كما ترى - يخالف باطنه ظاهره، كما أن المنافقين يخالف باطنهم ظاهرهم، فهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وذلك السور باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وهو تناظر لطيف بين السور والمنافقين في اختلاف الباطن عن الظاهر.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}
استعمل الفعل (ينادونهم) وقد استعمل قبل قليل الفعل (يقول)؛ ذلك لأنه صار بينهم حاجز فاحتاجوا إلى رفع الصوت للنداء.
{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ولم يقولوا: (ألم نكن منكم) لأنهم كانوا معهم ولم يكونوا منهم، ولذلك أجابوهم بـ (بلي)، ولو قالوا: (ألم نكن منكم) لأجابوهم بكلاّ.
{قَالُوا بَلَى} ولم يقل: (فنادوهم بلى) ذلك أنه حيث استعمل القرآن الفعل (نادي) أو متصرفاته يكون الجواب بفعل القول، وذلك نحو قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود: 42 – 43].
{وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي أوقعتموها في الفتنة. واختيار هذا الفعل اختيار رفيع، فإن (فتن) له معان كثيرة، أكثرها مراد هنا.
فمن معانيه: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. وأنتم وضعتم أنفسكم في هذا الموضع ففتنتم أنفسكم وبانت رداءتكم وخسة معدنكم.
ومن معانيه: الامتحان والاختبار، وقد وضعتم أنفسكم في هذا الموضع أيضًا فأوقعتم أنفسكم في الفتنة والاختبار والامتحان؛ لأنكم أظهرتم الإيمان وأبطنتم الكفر، فتقولون للمؤمنين: نحن معكم، وتقولون للكافرين: إنا معكم، ولا شك أن كل فريق يختبركم ويمتحنكم ليتبين أأنتم معه أم عليه.
ثم إن هذا الأمر يحتاج إلى موازنة الموقف وإظهار تعامل خاص لكل فريق، وهذا امتحان أيضًا لبيان القدرة على السلوك المتناقض الذي يرضي الطرفين المتباينين، فأنتم وضعتم أنفسكم تحت الاختبار والمراقبة من كل فريق ومن أنفسكم أيضًا.
ومن معانيه: الشدة والتعذيب، ومنه قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، وقوله: {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] أي يعذبهم.
وأنتم فتنتم أنفسكم فأوقعتموها في الشدة والتعذيب في الدنيا والآخرة بالتربص والخوف ومحاولة إخفاء الحقيقة بصورة مستمرة ولجوئكم إلى الكذب والمراوغة واختلاق المعاذير، وفي الآخرة أنتم كما ترون.
ومن معانيه: إدخال الإنسان النار (11)، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13 - 14] وأنتم فتنتم أنفسكم في الدنيا والآخرة وأوقعتموها في المحنة والعذاب وأدخلتموها النار، فأنتم الذين فتنتم أنفسكم في الدنيا والآخرة وأوقعتموها في المحنة والعذاب وأدخلتموها النار، فأنتم الذين فتنتم أنفسكم. جاء في (الكشاف): "{فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}: محنتموها بالنفاق وأهلكتموها" (12).
{وَتَرَبَّصْتُمْ}
وتربصهم مطلق، فهم كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر ليتمكنوا من إعلان كفرهم صراحة، وكانوا أيضًا يتربصون ظهور أحد الفريقين وانتصاره ليعلنوا أنهم كانوا معه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء : 141].
فالفتنة هذه تقتضي التربص للانتفاع من كل فريق، وهذا التربص يفضي إلى الريبة فيمن سيفوز ويربح ليعلنوا أنهم معه، فقال: (وارتبتم) أي شككتم في أمر محمد وهل هو على حق، وارتبتم فلا تعلمون أي فريق سيغلب.
ولما لم يتبين لكم الأمر على حقيقته (غرتكم الأماني) وخدعتكم وقلتم: لعله سيُغلب محمد، وبقيتم في هذه التمنيات الخادعة حتى جاءكم أمر الله وهو الموت. هذا علاوة على ما خدعكم به الشيطان وغركم بالله وقال لكم: إن الله سيغفر لكم ولا يعذبكم (13)، فغرتكم أماني أنفسكم والشيطان.
إن هذه المذكورات مرتبة ترتيبًا منطقيًا يفضي أحدها إلى الآخر، فهم فتنوا أنفسهم بأن أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر فكان عليهم التربص والانتظار، وبذا كان التربص من أثر الفتنة والاختبار. ثم لما طال التربص ولم تظهر له نتيجة حاسمة داخلتهم الريبة والشكوك فيمن سيظهر ويغلب. وبعدها جاء دور الأماني الخادعة تغرهم وتمنيهم. ثم إن الشيطان ولج لئلا تصحو ضمائرهم ويخافوا بطش الله فغرهم بالله وهون عليهم الأمر. واستمروا على ذلك حتى جاء أمر الله ورحلوا عن الدنيا منافقين مغرورين من أنفسهم ومن الشيطان فسوف يلقون غيًّا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 359 إلى ص 365.
(1) تفسير الرازي 29/224.
(2) انظر روح المعاني 27/176.
(3) نظم الدرر 7/444.
(4) الكشاف 4/63، وانظر تفسير الرازي 29/225، روح المعاني 27/176.
(5) الكشاف 4/63.
(6) تفسير الرازي 29/226.
(7) التحرير والتنوير 27/382.
(8) انظر روح المعاني 27/177.
(9) ينظر تفسير الرازي 29/227، روح المعاني 27/177.
(10) التحرير والتنوير 27/383.
(11) انظر المفردات في غريب القرآن (فتن).
(12) الكشاف 4/63.
(13) انظر الكشاف 4/63، تفسير الرازي 29/227، البحر المحيط 10/106.