عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤﴾    [الحديد   آية:٤]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} لقد دل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على أنه هو المالك لهما، إضافة إلى دلالته على أنه الأول. ودل قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه الملك الحاكم المسيطر، فهو مالك الملك، أي أن الملك هو ملك له، فهو المالك والملك. جاء في (المصباح المنير): "(ملكته) ملكًا من باب ضرب، والملك بكسر الميم: اسم منه، والفاعل: مالك، والجمع: ملاك، مثل كافر وكفار ... وملك على الناس أمرهم: إذا تولى السلطنة، فهو ملك بكسر اللام، وتخفف بالسكون، والجمع ملوك، مثل: فلس وفلوس، والاسم: الملك، بضم الميم" (1). ولما كان كل من الملك والمالك ينبغي أن لا يند عنه شيء في ملكه ذكر أنه {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فكان ذلك الكمال الأعلى في الملك والتملك، فهو لا يند عنه شيء في ملكوته، وإنما يعلم كل شيء عن المسكن والساكن في السماء والأرض. وليس ذلك فقط، وإنما هو يبصر أيضًا ما فيهما، وهذه مرتبة فوق العلم، فإن الفرد قد يعلم عن طريق الإخبار، أما الله سبحانه فهو يعلمه ويشاهده، بل له مرتبة فوق ذلك وهي المعية والمصاحبة، فهو مع عباده أينما كانوا، وهذه مرتبة فوق المشاهدة، وهي مرتبة القرب. بل له مرتبة فوق ذلك أيضًا، وهي أنه بصير بما نعمل ظاهرًا وباطنًا، فهو يعلم عمل كل عامل، ويعلم لم عمله؟ وهذه مرتبة فوق المعية؛ لأنك قد تصاحب إنسانًا وتراه يعمل عملًا ما ولكنك لا تعلم لم فعل ذلك، فذكر أنه تعالى بصير بما يعمل العاملون، وأنه عليم بذات الصدور. فذكر كل مراتب العلم وهي: 1- أنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فهو يعلم الداخل والخارج، والنازل والصاعد. 2- وأنه مصاحب لنا أينما كنا. 3- وأنه مبصر لأعمالنا. 4- وأنه يعلم لم فعلنا ذلك. فاستوفى كل مراتب العلم، فناسب ذلك ختام الآية السابقة وهو قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 337 إلى ص 338. (1) المصباح المنير (ملك) 221. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} ولم يقل: (ما يولج)، وقال: {وَمَا يَخْرُجُ} ولم يقل: (ما يخرج)، وقال: {وَمَا يَنْزِلُ} ولم يقل: (ما ينزل)، وقال: {وَمَا يَعْرُجُ} ولم يقل: (ما يعرج)، وهذا أدل على العلم؛ لأن الفرد في العادة يعلم ما يفعله هو ولكنه يجهل ما لم يفعله هو، أما ربنا فقد أخبر عن نفسه أنه يعلم ما يلج وما يخرج وما ينزل وما يعرج، وهذا أدل على العلم. وقد ما يلج في الأرض على ما يخرج منها، وقدم ما ينزل من السماء على ما يعرج فيها، فقد ما ينزل وما يلج وأخر ما يخرج وما يعرج، ذلك أن كثيرًا مما ينزل من السماء قد يلج في الأرض ثم يخرج بعد ذلك من الأرض ما يخرج بسببه أو بغيره من الأسباب كالنباتات والينابيع وغيرها، فالو لوج قد يكون سببًا للخروج. والذي يخرج من الأرض ومحيطها قد يعرج إلى السماء، فالذي ينزل من السماء قد يلج ف الأرض، والذي يخرج من الأرض ومحيطها قد يعرج إلى السماء، وذلك أن قوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} يحتمل معنيين: الأول: أنه يخرج من داخلها كالنباتات والحشرات وغير ذلك، والآخر: أنه يخرج من دائرتها ومحيطها. وبدأ بالأرض وأخر السماء؛ لأن السياق في الكلام على أهل الأرض وهو قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهي مسكنهم. وقد تقول: لقد قال في سبأ نحو هذا، غير أنه لم يذكر {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، كما أن خاتمة كل من الآيتين اختلفت عن الأخرى، فقد قال في سبأ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] فما السبب؟ والجواب: أن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك. 1- فقد قال في سورة الحديد قبل هذه الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] فجاء في الآية التي قبلها بما يدل على علمه تعالى وإحاطته بكل شيء فقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وجاء بعد ذلك قوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مما يؤكد هذا المعنى. ولم يرد في سياق آية سبأ نحو ذلك، فناسب المجيء بذكر العلم في آية الحديد دون آية سبأ. 2- قال في آية الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وهذا مما يدل على المراقبة، ولذا جاء بعدها بما يدل على معرفته بعملنا فقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وقال في خاتمة الآية في سورة سبأ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فختمها بالرحمة والمغفرة، فكأنه أراد أن يرحمهم ويغفر لهم فرفع ذكر المراقبة، ولا شك أن عدم ذكر المراقبة أنسب مع ذكر الرحمة والمغفرة، وأن ذكره أنه بصير بعملنا أنسب مع ذكر المراقبة. 3- أنه ذكر الآخرة قبل الآية فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} وليست الآخرة وقت عمل أو مراقبة. كما أن الآية بعدها إنما هي في الساعة وهي قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} فلم يذكر المراقبة ولا أنه بصير بما نعمل في هذا السياق. وأما آية الحديد فهي في سياق بداية الخلق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وهو زمان بداية الأعمال واستمرارها ومراقبتها، بخلاف سياق آية سبأ فإنه في طي صفحة الأعمال والمراقبة، فناسب كل تعبير موطنه. 4- إن جو سورة الحديد تردد فيه ذكر العلم والمراقبة بصور شتى، فقد قال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية: 3]، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الآية: 4]، وقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الآية: 4]، {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الآية: 6]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الآية: 10] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الآية: 22]، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الآية: 25]. وشاع في سورة سبأ ذكر الآخرة من مثل قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} [الآية: 1]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [الآية: 3]، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الآية: 4] {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الآية: 5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الآية: 7]، {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [الآية: 8] {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [الآية: 21]، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [الآية: 23]، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [الآية: 26]، {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 29] {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [الآية: 30]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ....} [الآيات: 31 - 33]، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الآيتان: 37 - 38]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ....} [الآيات: 40 - 42]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [الآيات: 51 - 54]؛ فناسب كل تعبير موطنه. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قدم {بِمَا تَعْمَلُونَ} على (بصير)؛ ذلك لأنه وردت بعد قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فقدم ما يتعلق بهم وهو عملهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 338 إلى ص 341.