عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢﴾ ﴾ [الحديد آية:٢]
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}
ذكر أولًا أنه سبح له ما في السماوات والأرض، ثم ذكر أنه له ملك السماوات والأرض، وهذا يقتضي أنه ملك ما فيهما أيضًا، إذ لا يكون الملك إلا على رعية، فلما ذكر أن له ملك السماوات والأرض علم أنه ملك من فيهما.
وقد أفاد تقديم الجار والمجرور (له) وتعريف المبتدأ (ملك السماوات) القصر، فلا ملك لأحد سواه على الحقيقة.
ومجيئ هذه الآية بعد آية التسبيح أنسب شيء، فإن الشخص قد يحمد في ذاته إن لم يكن مالكًا أو ملكًا، فإن ملك شيئًا أو ملك عليه فقد يظهر عليه ما لم يكن ظاهرًا، أو يتغير بتغير الحال فيذم ويعاب، أو قد يقصر في ملكه أو يسيء، ولذا كان مجيء هذه الآية أنسب شيء؛ لأنه ذكر أنه منزه في جميع الأحوال، فهو منزه في ذاته، ومنزه في عزته، ومنزه في حكمه وحكمته، ومنزه في ملكه، ومنزه في إحيائه وإماتته، ومنزه في قدرته، فدل ذلك على أنه لا يفعل إلا عن كمال حكمة وتمام تدبير، وأنه له الكمال المطلق في كل شيء، فاستحق التنزيه في ذاته وفي أفعاله وصفاته.
جاء في (تفسير التحرير والتنوير) في قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: "ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله تعالى؛ لأن من له ملك العوالم العليا الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله.
وأفاد تعريف المسند إليه قصر المسند على المسند إليه، وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بملك غيره في الأرض، إذ هو ملك ناقص، فإن الملوك مفتقرون إلى من يدفع عنهم العوادي بالأحلاف والجند، وإلى من يدبر نظام المملكة من وزراء وقواد، وإلى أخذ الجباية والجزية ونحو ذلك.
أو هو قصر حقيقي إذا اعتبرت إضافة (ملك) إلى مجموع السماوات والأرض، فإنه لا ملك لمالك على الأرض كلها بل السماوات معها" (5).
وقد تقول: لقد ذكر في مواطن أخرى من القرآن الكريم أن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، كما في سورة المائدة 17، 18 والزخرف 85 ولم يذكر ذلك ههنا، فما السبب؟
فنقول: إن كل موطن ذكر فيه أن له ملك السماوات والأرض وما بينهما إنما جاء تعقيبًا على القول في الله ما لا يليق به سبحانه، كقول النصارى: إن المسيح ابن الله أو هو الله، أو قول اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فجعلوا أنفسهم أبناء الله.
فيعقب على ذلك بقوله: إن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فلم يتخذ ولدًا؟
إن الذي يتخذ ولدًا إنما جه حاجة إلى ذلك، أو يشعر أن به حاجة، فيتخذ الولد لسد الحاجة، أما الله فإن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فهو ملكهما ومالكهما فلم الولد؟ فيذكر سعة ملكه في نحو هذا الموطن لبيان أن قولهم باطل وأنه غير محتاج إلى الولد، أما ما لم يرد في سياق ذلك فلا يذكر (وما بينهما).
ومن الطريف أن نذكر أيضًا أن كل موطن ذكر فيه (وما بينهما) إنما هو في سياق الكلام على ثلاث ملل، وهن: اليهود والنصارى والمسلمون، بخلاف ما لم يذكر ذلك، فاليهود والنصارى والمسلمون ثلاثة، والسماوات والأرض وما بينهما ثلاثة، فناسب بين الملل الثلاث ما ذكره من السماوات والأرض وما بينهما.
ففي سورة المائدة مثلًا ذكر الكلام على بني إسرائيل، فقد قال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 12]، وقال بعدها: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14]، ثم قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} [المائدة: 15].
ومثل ذلك آية الزخرف، فقد ذكر موسى وفرعون ( من 46 إلى 56) ثم ذكر عيسى وتكلم فيه (من 57 إلى 64)، ثم ذكر عقيدة المسلمين: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ .....} [الزخرف: 81 وما بعدها]؛ فكان كل تعبير مناسبًا في مكانه.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
إن المالك أو الملك قد لا يكون قادرًا على كل شيء فذكر أن الله على كل شيء قدير. والملاحظ أنه إذا عمم القدرة فقال: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أو أطلقها لم يأت إلا بصيغة تفيد المبالغة، ولم يأت باسم الفاعل (قادرًا)، فإن المقدرة على كل شيء أو القدرة المطلقة غير المقيدة تقتضي المبالغة ولا يفيدها اسم الفاعل.
أما إذا جاء باسم الفاعل (قادر) فإنه لا يطلقه ولا يعممه، بل يقيده بأمر فيقول مثلًا: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً} [الأنعام: 37]، أو يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65].
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 327 إلى ص 331.
(1) روح المعاني 27/164.
(2) انظر الكشاف (دار الفكر) 4/60، البحر المحيط (دار الفكر) 10/100، تفسير الرازي 29/207.
(3) نظم الدرر 7/432.
(4) تفسير الرازي 29/208.
(5) التحرير والتنوير 27/358 (دار سحنون).