عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴿١٤﴾ ﴾ [الصف آية:١٤]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) }
قيل: معنى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي؟ وقيل معناه: من يكون معي في نصرة الله؟
وعلى هذا يكون معنى التفسير الأول: إن اللخ ينصرني، فمن يكون مع الله لينصرني؟
وعلى التفسير الثاني يكون المعنى: أنا أنصر الله، أي: أنصر دينه فمن يكون معي لننصر الله؟
وهذان المعنيان يتضمنها قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فالمؤمن ينصر الله والله ينصره، فقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يحتمل أن المسيح طلب من ينصره إضافة إلى نصرة الله، كما يحتمل أنه طلب من ينصر الله إضافة إلى نصرته له.
وقولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} يصح أن يكون الجواب عن المعنيين.
جاء في (الكشاف): "معنى (من أنصاري) من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب" (1).
وجاء في (مجمع البيان): "{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}: من أنصاري مع الله ينصرني مع نصرة الله إياي؟ وقيل: {إِلَى اللَّهِ} أي فيما يقرب إلى الله، كما يقال: اللهم منك وإليك" (2)، فكل من الزمخشري والطبرسي ذكر جانبًا من جوانب النصرة، والله أعلم.
إن من الملاحظ في هذه الآية:
1- أنه بعد أن شوقهم لذكر التجارة عن طريق الاستفهام لم يكتف بذاك. وإنما أمرهم أن يكونوا أنصار الله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ليعلموا أن ذلك من باب الأمر والتكليف، وليس من باب الاختيار والمندوب.
2- إن الذي قال للحواريين: (من أنصاري) هو عيسى، أما القائل للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فهو الله، وذلك يدل على عظم التبليغ للمؤمنين وأهميته.
3- لم يقل: (يا أيها الذين آمنوا قولوا نحن أنصار الله كما قال الحواريون) ولكنه قال: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فإنه طلب الفعل ولم يطلب القول، وهذا مناسب لتأنيبه لمن قال ولم يفعل في أول السورة.
4- إن الحواريين لم يقولوا: (سنكون أنصار الله)وإنما قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أن نحن أنصاره الآن، ولذا قال: (فأيدنا) وذلك أنهم قاموا بالنصرة فعلًا فاستحقوا التأييد، وجاء بالبقاء الدالة على التعقيب، ولم يقل: (ثم أيدنا) الدالة على التراخي.
5- قال: (فأيدنا) بإسناد الفعل إلى نفسه سبحانه ليدل على أن التأييد منه سبحانه، كما قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] بإسناد النصر إليه، ولم يقل: (إن نصروا الله تنتصروا) فإن النصر لا يكون إلا منه سبحانه.
وهذا التأييد يحتمل أمرين: التأييد بالحجة، فأصبحوا ظاهرين في حجتهم، والتأييد بالسيف والغلبة وذلك بعد رفع عيسى عليه السلام.
جاء في (تفسير أبي السعود): "{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي قويناهم بالحجة أو بالسيف، وذلك بعد أن رفع عيسى عليه السلام، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي غالبين" (3).
إن هذا التعبير مرتبط بقوله في أول السورة: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كما سبق أن ذكرنا.
فإن قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} إذا كان بمعنى غلبة السيف والظروف مرتبط باسمه (العزيز)، ومرتبط باسمه (الحكيم) من الحكم.
وإذا كان بمعنى غلبة الحجة فهو مرتبط باسمه (الحكيم) من الحكمة، فهو مرتبط باسميه العزيز الحكيم أيا كان نوع التأييد، فارتبط آخر السورة بأولها.
6- لقد طلب من المؤمنين عامة أن يكونوا كحواري عيسى في نصرة الله، والحواريون هم الخلص من أتباع السيد المسيح.
فهو طلب من المؤمنين عامة على مر الأزمان أن يكونوا كالحواريين، فقد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} ولم يقل: (يا أصحاب محمد) ومعنى هذا أنه يطلب من عموم المؤمنين أن يكونوا على درجة عظيمة من الرفعة والإخلاص والجهاد.
7- قال عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} بإضافة الأنصار إلى نفسه فارتبطت النصرة به، وقال الله: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ولم يقل: (كونوا أنصار محمد إلى الله) وذلك ليشمل الطلب عموم المؤمنين، ولئلا ترتبط النصرة بشخص الرسول(محمد).
ثم إنه لما كان قول عيسى موجهًا إلى الحواريين – وهم خاصة أتباعه – قال: {مَنْ أَنْصَارِي} بالتخصيص، ولما كان الكلام وجهًا إلى المؤمنين عامة قال: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} على العموم.
8- إن قول عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} إلماح إلى أن رسالته منقطعة، فإنه أضاف الأنصار إليه، وهذا يدل على أنه بعد توفيه ستنقطع نصرته.
وأما قول الله للمؤمنين: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فيدل على أن الرسالة دائمة غير منقطعة؛ لأن الإضافة إلى الله لا إلى شخص معين.
9- قال عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} فقال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ولم يقولوا: (نحن أنصارك إلى الله) وذلك للأعلام بأنهم يكونون أنصار الله بعده ولا تنقطع النصرة بعد ذهابه، فعزموا على نصرة الله سواء كان موجودًا أن لم يكن.
وقد تقول: ولم لم يقل: (من أنصار الله) حتى يكون الجواب ملائمًا؟
والجواب: أنه لو قال: من أنصار الله؟ لادعى كل أحٍد أنه من أنصار الله، ولقال اليهود: نحن أنصار الله، ولكنه قال: (من أنصاري) لتكون نصرة الله عن طريق نصر النبي الجديد، فكان سؤاله أنسب وجوابهم أنسب.
10- إن قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يدل على أنه سيؤيد المؤمنين من أتباع الرسول محمد، فقد ناداهم بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فدخلوا في التأييد.
11- ثم إن بشارة المسلمين أعظم، فإنه قال في أتباع عيسى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } فخص ذلك بالتأييد على العدو، وقال في المسلمين: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] وإظهار دينه إنما يكون بظهور معتنقيه، وزاد لهم النصر والفتح القريب، فزاد على النصر الفتح.
12- من الملاحظ أن عيسى لم يعد أتباعه بشيء، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر والفتح القريب.
13- ورد في الآية نسبة عيسى إلى أمه كما ورد في مكان آخر من السورة، كما ورد فيها طلب النصرة، وكلا هذين الأمرين يدل على أن عيسى بشر وليس ابنًا لله، تعالى عن أن يكون له ولد.
وفي الختام نود أن نقول: إن السورة ابتدأت بالجهاد والقتال، واختتمت بالتأييد والظفر، فقد ابتدأت بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} واختتمت بقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} مما يدل على أن عاقبة الجهاد تأييد الله ونصره، فارتبط أول السورة بآخرها أحسن ارتباط وأوثقه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 320 إلى ص 324.
(1) الكشاف 4/101.
(2) مجمع البيان 9/418.
(3) تفسير أبي السعود 7/246.