عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿٨﴾ ﴾ [الصف آية:٨]
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) }
هذا تهكم بهم، فمثل تكذيبهم، وإخفاءهم صفة محمد وإنكارهم الحق الذي جاء به، وقولهم إنه سحر مبين، بمن ينفخ نور الشمس بفمه ليطفئها، وقال: {نُورَ اللَّهِ} ليدل على أن ما جاء به محمد إنما هو نوره سبحانه ليهدي به الخلق، وأن نور الله أنأى أن يطفأ، فهو أكثر تمكنًا وأشد إنارة من نور الشمس؛ لأن الشمس تغيب نورها، أما نور الله فلا يحجبه شيء ولا يطفئه أحد.
واللام في (ليطفئوا) يحتمل أن تكون زائدة في المفعول للتوكيد، وأصله (يريدون أن يطفئوا نور الله).
وتحتمل أن تكون للتعليل، أي إرادتهم لهذا الغرض، بمعنى أن كل همهم مصروف لهذا الغرض.
جاء في (الكشاف): {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أصله: يريدون أن يطفئوا، كما جاء في سورة براءة. وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيدًا لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك ... وإطفاء نور الله بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: (هذا سحر)، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه" (1)
وقد تقول: لقد قال في سورة التوبة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32] ولم يقل: (يريدون ليطفئوا نور الله) فما الفرق؟
والجواب: أن اللام يؤتى بها مع مفعول فعل الإرادة للتوكيد، وقد اقتضى السياق في آية الصف التوكيد، ذلك أن السياق فيها إنما هو "في تكذيب النصارى للبشارات بمجيء محمد: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 6 – 8].
ونور الله هو الإسلام، فتكذيب النصارى للبشارة الواردة في كتبهم القصد منه إطفاء نور الله، فجاء باللام الدالة على التوكيد.
وأما في آية التوبة فالسياق مختلف، وقد ذكرت الآية في سياق آخر لا يحتاج إلى مثل هذا التوكيد، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 30 – 31].
فالسياق في آيات الصف متجه إلى النبوة ومحاولة تكذيبها فجاء باللام، والسياق في آيات التوبة في النعي على معتقدات اليهود والنصارى في عزير والمسيح والأحبار والرهبان، فجاء باللام الزائدة في الآية الأولى لأن الكلام على نبوة محمد والإسلام، ولم يأت بها في الآية الثانية لأن السياق مختلف" (2).
ثم ألا ترى من ناحية ثانية أنه في موطن الرد على اليهود والنصارى في شركهم بالله جاء باللام لأن الأمر يقتضي التوكيد فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}.
فانظر كيف جاء باللام الزائدة للاختصاص في قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} لأن السياق يقتضي ذلك، وحذفها في الموطن الذي لا يقتضيه؟
ويدلك على ذلك أيضًا أنه قال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} فجاء باسم الفاعل الدال على الثبوت (متم)، بمعنى أن الأمر ثبت واستقر. في حين قال في سورة التوبة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فجاء بالفعل المضارع مسبوقًا بأن الناصبة {أَنْ يُتِمَّ} وهذا تنصيص على الاستقبال، فإن (أن) الناصبة للمضارع من حروف الاستقبال، فكان ما في الصف أكد، والله أعلم.
وقال: (بأفواههم) ليدل على الصورة المضحكة لفعلهم، فإن الذي ينفخ بفمه في نور الشمس ليطفئها مثار للسخرية منه، فهم لم ينفخوا بآلة ذات دفع قوي مثلاً لعلهم يطفئون نور الله بل بأفواههم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر تكذيبهم وافتراءهم على الله وقولهم عندما جاءهم بالبينات: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وهذا كله من المحاربة بالأفواه، فقال: (بأفواههم) لذلك، والله أعلم. وقد أنجز الله ما وعد وأتم نوره وأرغم أنف الكافرين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 301 إلى ص 304.
(1) الكشاف 4/99.
(2) معاني النحو 3/82 – 83.