عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿٧﴾    [الصف   آية:٧]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)} أي ليس ثمة أظلم ممن يفتري على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام دين الله الحق فيقول: إن محمدًا ليس هو المقصود بالبشارة، أو هو ساحر كذاب، مع علمه بأنه صادق وأن الذي جاء به هو الدين الحق فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم، فهم يظلمون أنفسهم لأنهم يحرمونها الهدى ويوردونها موارد التهلكة ويدخلونها دار البوار، ويظلمون غيرهم لأنه يكونون سببًا لمنعهم من الدخول في دين الله فيحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم، ويظلمون الرسول بنسبته إلى الكذب. جاء في (التحرير والتنوير) في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: "وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول  بنسبته إلى ما ليس فيه، إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة ... وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإنجيل" (1). وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ ...} فأخرجه مخرج الاستفهام ولم يقل (ولا أظلم ممن افترى ...) أو نحو ذلك، وذلك ليشارك السامع بالإجابة وليقرر بنفسه أن لا أظلم ممن افترى على الله الكذب فيقول: لا أحد أظلم منه، فإنه بدل أن يخبر الله بذلك فيقول: (ولا أظلم ممن افترى على الله الكذب) يقرر السامع ذلك بنفسه. وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فجعل نفي الهداية ختامًا للآية؛ لأنه قال: {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} أي يدعى إلى الهدى، فناسب نفي الهدى عنه، كما قال في أصحاب موسى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لأنهم زاغوا عن طريق الحق، أي مالوا عنه فضلوا، فنفى الهدى عنهم ووصفهم بالفسق. وقد تقول: ههنا سؤالان: الأول: لِمَ لَمْ يؤكد نفي الهداية كما أكده في موطن آخر، فقد قال في سورة الأنعام: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ١٤٤]، فأكد نفي الهداية بان فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. والسؤال الآخر: أنه قال في خاتمة هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. في حين ختمها في آيات متشابهة بغير هذه الخاتمة، فقد قال في سورة الأنعام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: ٢١] فختمها بنفي الفلاح عنهم. وقال في مكان آخر: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: ۱۷] فسماهم مجرمين لا ظالمين. وفي موطن آخر سماهم كافرين فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. وأحيانًا لا يعقب بشيء بل يكتفي بقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} كما ورد في الكهف – الآية 15، فما السبب في ذلك كله؟ والجواب : أن كل تعبير إنما يكون بحسب ما يقتضيه السياق والمقام، فإذا احتاج الكلام إلى مؤكد أكد، وإن لم يقتض التوكيد لم يؤكد؟ وإذا اقتضى أن يصفهم بصفة ما وصفهم بها على حسب السياق، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، فأكد نفي الهداية بـ (إن)؛ وذلك لأنه زاد على آية الصف قوله: {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فاقتضى ذلك تأكيد نفي الهداية لهؤلاء الذين يضلون الناس بغير علم. هذا إضافة إلى أنه عرف (الكذب) في آية الصف ونكره في آية الأنعام، فقال في الصف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، وقال في الأنعام : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ومن المعلوم أن (الكذب) معرفة، و(كذبًا) نكرة، فإذا كان الافتراء في أمر معين عرفه، وإن كان الافتراء عامًا لم ينحصر في شيء معين نكّره (2). فلما كان الافتراء في آية الصف متعلقًا بصفة النبي محمد والتبشير به عرفه فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، ونكر الكذب في آية الأنعام، لأنهم يفترون على الله كذبًا في أمور متعددة ونواح مختلفة ولا ينحصر افتراؤهم في أمر معين، فاقتضى ذلك تأكيد نفي الهداية أيضًا من جهة أخرى. وهو يصفهم أحيانًا بعدم الفلاح بحسب ما يقتضيه السياق، وذلك نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 20 – 21]. فلما قال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ناسب أن يقول: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فنفى الفلاح عنهم لأنهم خسروا أثمن شيء وهو أنفسهم، فمن أين يأتيهم الفلاح؟ فإن الذي يخسر مالاً قد يأتيه الفلاح من جهة أخرى، أما الذي خسر نفسه فكيف يأتيه الفلاح وإلى أين يأتي الفلاح ولم تعد له نفس؟ فإنه خسرها، ولذلك أكد الكلام بإن وجاء بضمير الشأن للدلالة على عظم الخسارة وعدم الفلاح فقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. وقد يزيد في خسرانهم وعقوبتهم وعدم فلاحهم فيجعل عليهم لعنة الله، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 – 19]، فإن هؤلاء زادوا على غيرهم في أوصاف السوء، فقد ذكر أنهم: 1- افتروا على الله كذبًا. 2- وأنهم يصدون عن سبيل الله. 3- ويبغونها عوجًا. 4- وهم بالآخرة هم كافرون. فاستحقوا بذلك اللعنة ومضاعفة العذاب وكانوا هم الأخسرين، كما قال تعالى في الآية التي بعدها: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 20 – 22]. وأما وصفهم بأنهم مجرمون أو كافرون أو غير ذلك، فذلك بحسب ما يقتضيه سياق الكلام. قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17] فوصفهم بأنهم مجرمون، وذلك لأنه ذكر في الآية قبلها: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس : 13]، فإنه لما ذكر أنه أهلكهم بظلمهم ووصفهم بالإجرام فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ناسب وصف هؤلاء الذين هم أظلم من أولئك بالإجرام فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} يعني لا أحد أظلم من هؤلاء المفترين، فاستحقوا الوصف بالإجرام كالأولين الذين أهلكهم رب العزة. وقال في آية أخرى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت : 68] فوصفهم بالكفر؛ وذلك لأنه تقدم قبل هذه الآية قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]، فإنه لما تقدم أنهم آمنوا بالباطل وكفروا بنعمة الله، وهو الدين الحق، ناسب أن يصفهم بالكفر فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. وأما عدم التعقيب بشيء فذلك أيضا ما يقتضيه المقام والسياق، قال تعالى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]. والقائل هنا هم الفتية أصحاب الكهف، وهؤلاء ليس بوسعهم أن يقرروا إن كان الله سيهدي قومهم أم لا، فإن علم ذلك إلى الله، ولذا لم يتعدوا الوصف بقولهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. فناسب كل تعبير موطنه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 296 إلى ص 301. (1) التحرير والتنوير 28/179. (2) انظر معاني النحو 1/137 وما بعدها.