عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿٥﴾ ﴾ [الصف آية:٥]
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}
ذكر قصة موسى ليتأسى رسول الله ، وذلك أن قوم موسى آذوه مع علمهم أنه رسول الله إليهم.
وفيها تحذير لمن يزيغ عن طريق الحق والهدى ولا يتبع رسول الله أن يزيغ الله قلبه، كما فعل مع أصحاب موسى.
قيل: ومناسبة ذكر هذه القصة لما قبلها أن أصحاب موسى انتدبوا لقتال الجبابرة فعصوا رسولهم ونكلوا، فشبه حالهم حال من تمنى القتال ثم لما كتب عليهم القتال تراجع.
جاء في (تفسير أبي السعود): "{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال ... أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حتى ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فلم يمتثلوا بأمره وعصوه أشد عصيان" (1).
وقيل : إنه لما كان في صف الجماعة المؤمنة من قال ما لا يفعل، وذلك يدخل في باب الكذب، كان ذلك نوع أذى لرسولهم في أن يرى من جماعته من يقول ما لا يفعل، فذكر الذين آذوا موسى ممن آمن به تأسية لرسوله وتقريعًا وتحذيرًا لأولئك.
جاء في (البحر المحيط): "ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الأذية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي}" (٢). وقد أطلق الأذى ليشمل كل نوع من أنواعه.
وقد ذكر موسى عليه السلام أمرين كل منهما يدعو إلى الدفاع عنه ونصرته وعدم إيذائه:
الأمر الأول: كونهم قومه، فقد قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ}، وقوم الرجل في العادة يدفعون عنه وينصرونه ولا يؤذونه، وكان العرب في الجاهلية ينصرون أخاهم ومن كان من قومهم وإن كان ظالمًا، وعلى ذلك جرى مثلهم المشهور (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) والذي أعطى له رسول الله مفهومًا جديدًا.
والأمر الآخر: أنهم يعلمون أنه رسول الله، وهذا يستدعي طاعته والدفاع عنه ونصرته لا إيذاءه، لكن بني إسرائيل آذوه مع هذين المانعين من الأذى المستلزمين للنصرة.
وقد قال لهم: (يا قوم) تألفًا لهم واستصراخًا لداعي القربى واستثارة للمودة ليلين قلوبهم فيطيعوه ويكفوا عن أذاه، كما يقول الرجل لأخيه: يا أخي، ولابنه: يا بني، ولابن عمه: يا ابن عم، تذكيرًا بالقربى واستثارة لداعي المودة.
ومن الملاحظ في القرآن الكريم أن موسى في قسم من المواقف يناديهم بـ (يا قوم) ثم يذكر لهم الأمر الذي يريد أن يبلغهم إياه، وأحيانًا لا يناديهم بـ (يا قوم) بل يذكر لهم الأمر مباشرة بحسب ما يقتضيه هذا الموقف.
فإذا كان الموقف يتطلب إثارة حميتهم وتليين قلوبهم، أو كان في مقام تذكيرهم بالنعم التي أنعم الله عليهم بها ناداهم بـ (يا قوم)، وإذا كان في موقف تقريع وذم وتذكيرهم بما يسوؤهم لم يقل لهم: (يا قوم).
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: ۲۰ – 21].
فذكرهم بنعمة النبوة والملك فيهم، وكل واحد يعتز بالانتساب إلى القوم الذين جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكًا. ثم هو يستثير حميتهم ونخوتهم لدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فقال: (يا قوم) في الموقفين.
في حين قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]. فذكرهم بأيام ذلتهم حين كانوا يسامون سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم فلم ينادهم بـ (يا قوم)، فإن الشخص لا يفخر ولا يعتز بالانتساب إلى القوم الأذلاء.
وقد تقول: ولكن الله قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ}.
فنقول: ولكنه أيضًا قال في الآية السابقة: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}.
ففرق كبير بين النعمتين، فتلك نعمة العزة والملك، وهذه نعمة النجاة من الذلة، فوضع النداء حيث كان أحق به.
وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة : 67].
فلم يقل لهم: (يا قوم)، ذلك أن هذا من مواقف الذم لهم والتشنيع عليهم وذكر سيئاتهم، فقد قتلوا نفسا فادّارؤوا فيها، فأراد الله أن يستخرج القاتل، فذكر ما هو معروف من أمر البقرة مما لا يشرف قومًا ذكره، فلم يقل لهم: (يا قوم) بل أمرهم بذبحها ليستخرج القاتل
وقال بعد عودته من مناجاة ربه وقد عبدوا العجل من بعده واتخذوه إلهًا: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: ١٥٠ – 152].
فلم يقل لهم: (يا قوم بئسما خلفتموني من بعدي)؛ وذلك لأن الموقف موقف غضب شديد وتأنيب وتوعد لهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وتخصيص طلب المغفرة له ولأخيه، فلا يناسب أن يقول لهم: (يا قوم) وأن ينسبهم إليه.
وقد تقول: ولكنه قال في هذا الموقف نفسه في موطن آخر: (يا قوم)، فقد قال في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ٥٤] فما الفرق؟
والحق أن السياق والمقام في كل منهما مختلف عن الآخر، فإن ما في الأعراف كان في وقت الحدث وفي شدة الغضب. أما آية البقرة فإنها تذكر ما وقع بعد الحدث بمدة وبعد هدوء الغضب ودعوتهم إلى التوبة بل إنها وقعت بعدما عفا الله عنهم، فقد قال الله في سياق البقرة نفسه: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 - 52] فذكر سبحانه أنه عفا عنهم. فالمقامان مختلفان، فالمقام الأول في أثناء المعصية، والثاني بعد العفو، فناسب كل تعبير موطنه.
هذا إضافة إلى أن السياق في البقرة على العموم في تعداد النعم على بني اسرائيل، بخلاف ما في الأعراف، فإنه افتتح الكلام في البقرة على بني إسرائيل بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وقال بعد ذلك قبل أن يذكر حادثة العجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] فموسى إذن يدعو بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم وعفا عنهم، فناسب أن يقول: (يا قوم)، بخلاف ما في الأعراف.
وقد قال لهم في سورة الصف: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فناداهم بيا قوم، استعطافًا لهم وتليينا لقلوبهم.
ثم قال: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} ولم يقل: (لم آذيتموني) للدلالة على استمرار الأذى له عليه السلام.
وقال: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فقال: (إليكم) ليدل على أن رسالته ليست عامة للبشر وإنما هي لبني إسرائيل خاصة، وهو شأن الرسل قبل سيدنا محمـد.
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}
أي فلما مالوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه، فكان ذلك جزاء وفاقًا بسبب زيغهم، فإن الله لا يظلم أحدًا.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
اختار وصفهم بالفسق لأنه هو المناسب، ذلك أن معنى (فسق): خرج عن الطريق الحق، وأصل المعنى من (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، فهم خرجوا عن الطريق الحق ومالوا عنه، فكان وصفهم بالفسق أنسب؛ لأن الفسق خروج عن الطريق أيضًا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 288 إلى ص 293
(1) تفسير أبي السعود لأبي السعود محمد العمادي ج 7/243.
(2) البحر المحيط لأبي حيان ج 10/165.