عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴿٤﴾ ﴾ [الصف آية:٤]
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
ذكر أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا ولم يذكر غيرهم ممن يحبهم الله، وذلك لأكثر من سبب:
منها: أن نزول الآية التي قَرَّع الله فيها الذين يقولون ما لا يفعلون كان بسبب النكول عن القتال، أو بسبب أمر يتعلق بالقتال، فإنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبادرنا إليه، فأعلمهم الله أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا. ثم إن جو السورة شاع فيه استنهاض المؤمنين للجهاد وطلب نصرة الله، فناسب ذكر هذا الصنف، والله أعلم.
ومعنى الآية: أن الله تعالى يحب الذين يثبتون في الجهاد ويلزمون مكانهم كثبوت البنيان المرصوص.
وقيل: المراد أن يكونوا في اجتماع كلمتهم واستواء نياتهم وموالاة بعضهم بعضًا كالبنيان المرصوص.
والحق أن المعنيين مرادان، فيراد ثباتهم في الحرب ولزوم مكانهم كما يراد اجتماع كلمتهم وموالاة بعضهم بعضًا.
فالمراد أن يكونوا صفًّا ثابتًا في نياتهم وأجسامهم، فإن تفرقت نياتهم وتشتت قلوبهم لم يكونوا صفًّا وإن وقفوا في صف واحد.
جاء في (الكشاف): "{كَأَنَّهُمْ} في تراصهم من غير فرجة ولا خلل (بنيان) رُصَّ بعضه إلى بعض ورصف. وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص" (1).
وجاء في (التفسير الكبير): "قال أبو إسحاق: أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص، وقال: ويجوز على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضًا كالبنيان المرصوص.
وقيل: ضرب هذا المثل للثبات، يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر" (2).
وقدم الجار والمجرور (في سبيله) على (صفًّا) وذلك لتقديم النية وأهميتها قبل أن يدخلوا في الصف. ثم إن توحيد النية سبب لتوحيد الصف، فإن لم يكن القتال في سبيل الله فلا خير فيه.
وقال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ}، ولم يقل: (كأنهم بناء) ذلك أن القرآن فرق في الاستعمال بين البناء والبنيان، فاستعمل البناء للسماء، والبنيان لما بناه البشر، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: 64].
في حين قال: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21]، وقال {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]، وقال {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109].
ووصف البنيان بأنه مرصوص فقال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} للدلالة على شدة تماسكه وقوته.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 286 إلى ص 288.
(1) الكشاف 4/97 – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(2) التفسير الكبير 29/313.