عرض وقفة أسرار بلاغية
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
{كَبُرَ} بضم الباء، وفي التعبير احتمالات:
منها: أن العرب يفرقون بين الكبر المعنوي والكبر في السن، فالكبر المادي تقوله بكسر الباء فيقال: (كبر الرجل)، والكبر المعنوي تقوله بالضم فيقال: (كبر الأمر)، والكبر ههنا غير مادي فقاله بالضم، فيكون التعبير خبريًّا.
وفيه احتمال آخر: وهو أن الفعل محوّل إلى (فعل) بضم العين لقصد التعجب، أي ما أكبره مقتًا، فإن الفعل قد يحوّل إلى (فعُل) لقصد التعجب.
وفيه احتمال ثالث: وهو أن الفعل محوّل إلى (فعُل) بقصد الذم، فإنه إذا أريد تحويل الفعل إلى المدح أو الذم، أي تحويله إلى باب نعم وبئس جيء به على (فعُل) بضم العين، بشروط معلومة في التعجب والمدح والذم.
وهنا احتمل التعبير الذم والتعجب، إضافة إلى الأسلوب الخبري الأول.
و(مقتًا) يحتمل أن يكون تمييزًا مفسرًا لفاعل مستتر، أي كبر المقت مفتًا، والمصدر المؤول يكون بدلًا وذلك لقصد الإيضاح بعد الإبهام، ثم فسر الأمر الممقوت بقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وإضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز يحول الكلام إلى إنشاء إضافة إلى التفخيم والتعظيم.
ويحتمل أن يكون الفاعل هو المصدر المؤول، أي {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} و(مقتًا) تمييز محول عن فاعل، والأصل (كبر مقت قولكم ما لا تفعلون) وقد حول الفاعل لقصد المبالغة (1).
وبهذا يكون قد اجتمع في التعبير ما يجعله ممقوتًا أشد المقت، وذلك من نواح:
1- منها أنه يحتمل الخبر على أصل التعبير من دون تحويل إلى (فعُل) فيكون قد أخبر عن بغضه بفعل من أفعال السجايا الدالة على الثبوت.
2- ومنها أنه يحتمل التحويل إلى (فعُل) لقصد التعجب، فيكون القصد هو التعجب من بغض هذا الفعل إلى الله.
3- ومنها أنه يحتمل التحويل إلى (فعُل) لقصد الذم، فيكون القصد إنشاء الذم لهذا الوصف.
4- ومنها أنه استعمل كلمة (المقت) دون البغض، والمقت أشد البغض وأبلغه.
5- ومنها أنه يحتمل تحويل الفاعل إلى تمييز لقصد المبالغة.
6- ومنها أنه يحتمل إضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز لقصد الإيضاح بعد الإبهام وتحويل الخبر إلى إنشاء.
7- ومنها وصفه بالكبر.
8- وزاد هذا الوصف بغضًا قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} فإن المبغوض عند الله هو أسوأ ما يبغض.
فجعل هذا التعبير ممقوتًا من كل وجه وعلى أبلغ صورة خبرًا وإنشاء وتعجبًا وذمًّا ومبالغة وإيضاحًا بعد الإبهام. ولو قال بدل ذلك مثلاً: (كبر المقت عند الله أن تقولوا) أو قال: (ما أكبر المقت عند الله) أو قال: (كبر عند الله مقت أن تقولوا ...) أو غير ذلك لفقد أكثر هذه المعاني.
جاء في (الكشاف): "قصد في (كُبر) التعجب من غير لفظه كقوله:
غلتْ نابٌ كليبٌ بَواؤُها
ومنعى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى {أَنْ تَقُولُوا}، ونصب (مقتًا) على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ... ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرًا حتى جعل أشده وأفحشه، و{أَنْ تَقُولُوا} أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك" (2).
وقال: {أَنْ تَقُولُوا} بالمصدر المؤول، ولم يقل: (قولكم) بالمصدر الصريح، ذلك أن (قولكم) يحتمل أن ذلك وقع مرة واحدة فيكون المقت الكبير لما حصل ولو مرة واحدة، وليس ذلك بمراد، فأراد أن يبين أن هذا المقت الكبير عند الله يكون إذا تكرر حصول ذلك، فجاء بالفعل الدال على التجدد والاستمرار.
كما أنه لم يقل: (كبر مقتًا عند الله أن قلتم ما لم تفعلوا) للسبب نفسه، فإنه لم يرد أن يجعل هذا المقت الكبير عند الله لما وقع مرة واحدة، والله أعلم.
وقد فظّع الله هذا الوصف وبالغ في ذمه، لأن هذا الأمر يدخل في دائرة الكذب، والمسلم لا يكذب.
وقد تقول: ولِمَ لَمْ يقل: (إن الله يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون) فيجعل المقت للفاعل، كما قال في الآية بعدها: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} فلماذا جعل المقت للفعل والحب للفاعل؟
والجواب: أن الله خاطب أصحاب الوصف الممقوت بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فلو قال بعد ذلك: (إن الله يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون) لأفضى ذلك إلى مقت الذين آمنوا الذين خوطبوا بذلك، والله لا يمقت الذين آمنوا بل يحبهم، ولكنه يمقت هذا الوصف، فنزههم عن أن يمقتهم ربهم، وكفى بذلك إكرامًا للمؤمن.
في حين قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} فجعل الحب للفاعلين بسبب فعلهم، فأحب الفعل والفاعلين، فأي كرامة للمؤمن دلت عليها الآيتان في المقت والحب؟!
قد تقول: لقد قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَلِمَ لمْ يقل بمقابل ذلك: (إن الله يحب الذين يفعلون ما يقولون)؟
والجواب: إن الله يحب الأفعال التي أرادها ربنا وارتضاها لنا، ولا يحب كل فعل أيًّا كان ذلك الفعل، فإنه ليس الأمر على إطلاقه، فإنه لا يحب الذي يقول أنه سيفعل سوءًا ثم يفعله، بل عليه أن ينتهي عنه حتى لو أقسم على فعله، فالذي يقول إنه سيقطع رحمه أو يفعل منكرًا عليه ألا يفعل ذاك، بل يفعل نقيضه من فعل المعروف، ولذا لا يصح هذا القول على إطلاقه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 282 إلى ص 286.
(1) انظر معاني النحو 2/751 وما بعدها.
(2) الكشاف 4/97.