عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿٢٨﴾    [الإنسان   آية:٢٨]
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} قال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} بعد قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} ليعلمنا أن الذي خلقهم وشد أسرهم هو الذي أنزل القرآن، فينبغي لهم أن يسمعوا لكلام خالقهم ويطيعوا تنزيل ربهم، وليعلمهم أن خالقهم أعلم بمصالحهم وما هو خير لهم. وقدم (نحن) على الفعل ليُعلم أنه وحده الخالق لا خالق غيره، فالتقديم هنا يفيد الحصر، فينبغي أن يعبدوه وحده وألا يشركوا به غيره ولا يتخذوا معه إلهًا. ومعنى {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أحكمنا خلقهم ووصّلنا عظامهم بعضها ببعض ووثقنا مفاصلهم. جاء في (الكشاف): "الأسر: الربط والتوثيق ... والمعنى شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب، ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته" (1). وأكد الضمير بان في أول السورة فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} ولم يؤكد ههنا، وذلك أنه ذكر في أول السورة خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا أصعب من خلق الإنسان فيما بعد، فإن الإيجاد الأول أصعب من الخلق فيما بعد، فإنه ذكر في هذه الآية خلقهم هم، وذكر في أول السورة خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن إخبارهم بأن الله خلقهم غير منازع فيه عندهم، فإنهم يعتقدون أن الله خلقهم، ولكنهم لا يعلمون أو ينازعون في أن الخلق لم يكن ثم كان، فإن قسمًا من الناس يرون أن سلسلة الوجود ليس لها بداية، بل هي متسلسلة منذ الأزل، فالمسألة هذه متنازع فيها. وهناك أمر آخر حسن التوكيد في أول السورة، وهو أنه ذكر أن الخلق إنما هو للابتلاء، إذ ليس كل أحد يعلم أن الإنسان خلق ليبتليه ربه ويختبره، بل هذا الأمر منازع فيه، وهو مجهول عند أكثر الناس. ولذا حسن التوكيد في أول السورة دون هذا الموطن. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} جاء بـ (إذا) ولم يقل: (وإن شئنا)، ذلك أن (إذا) تستعمل للدلالة على المتيقن والمقطوع بحدوثه، أو الكثير الحدوث. وهذا إشعار بأن الله سيبدل أمثال هؤلاء الكفرة في الخلقة ويأتي بمؤمنين يؤمنون بما نزَّل خالقهم مطيعون له. فالمشيئة حاصلة بذاك وستتم وقد تمت. جاء في (التفسير الكبير): "لما كان الله تعالى عالمًا بأنه سيجيئ وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف (إذا)" (2). والمجيء بـ (إذا) ههنا نظير قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 21 – 22]، وقوله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] فالمشيئة حاصلة ولابد، فإن الموتى سيبعثهم الله، فجاء بـ (إذا) للدلالة على تيقن الحصول. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 265 إلى ص 267. (1) الكشاف 3/300. (2) التفسير الكبير 30/261، وانظر أنوار التنزيل 776.