عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴿٢٧﴾    [الإنسان   آية:٢٧]
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)} وقال: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} مع أن يوم القيامة أمامهم، قيل: لأنهم نبذوه وراء ظهورهم وتركوه خلفهم استخفافًا به، ولو أنهم أهمهم الأمر وعناهم شأنه لجعلوه نصب أعينهم لا يغفلون عنه. "فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاونُا به واستخفافًا بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "لم قال: (وراءهم) ولم يقل: (قُدَّامهم)؟ الجواب من وجوه: أحدها: لما لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم. وثانيها: المراد: ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، فأسقط المضاف. وثالثهما: أن (وراء) يستعمل بمعنى (قُدَّام) كقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}" (2). وجاء في (الكشاف): {وَرَاءَهُمْ} قدامهم، أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به. {يَوْمًا ثَقِيلًا} استعير الثقل لشدته وهوله من الشيء الثقيل الباهظة لحامله. ونحوه {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}" (3). وقد تقول: ولم قال في سورة القيامة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ}، وقال ههنا: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} فذكر أن اليوم ثقيل؟ فنقول: أما قوله في سورة الإنسان: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} ولم يقل مثل ذلك في سورة القيامة، فالسبب أنه تكرر ذكر اليوم المشعر بالثقل في هذه السورة، فقد قال: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، وقال: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} ولم يذكر مثل ذلك في سورة القيامة. وقد يقول قائل: ولم كان الكلام موجهًا بأسلوب الخطاب في سورة القيامة فقال: {وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ}، وبأسلوب الغيبة في سورة الإنسان فقال: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}؟ والجواب: أن المقام لا يناسب الخطاب في سورة الإنسان؛ لأنه ذكر أن قسمًا منهم لم يذر الآخرة، بل أخبر عنهم أنهم يخافون يومًا كان شره مستطيرًا. وقال على لسان بعضهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وذكر أنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، فهم إذن لم يذروا الآخرة فلا يناسب الخطاب بذلك. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 264 إلى ص 265. (1) فتح القدير 5/343. (2) التفسير الكبير 30/260. (3) الكشاف 3/300.