عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿٢٤﴾    [الإنسان   آية:٢٤]
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) } قال بعد ذكر تنزيله القرآن: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فأمره بالصبر، مما يدل على أن التنزيل العزيز يستدعي الصبر لما فيه من قول ثقيل وتكاليف وتبليغ، فحامل التنزيل ينبغي أن يصبر عليه. والحكم قد يكون بمعنى الحكمة، فهو إذن يطلب منه الصبر لما تقتضيه حكمة الله سبحانه من الصبر حتى يأذن الله بالنصر. وقد يكون الحكم بمعنى القضاء، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] فيكون المعنى: اصبر لما حكمه الله وقضاه. والمعنى يحتملهما معًا، وهما مطلوبان، فإن الله أمر بالصبر على حكم الله وقضائه لحكمة وضعها وأرادها. فيكون المعنى: اصبر لحكمة ربك وحكمه وأمره. جاء في (الكشاف): "فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدًا قلة صبر منك على أذاهم، وضجرًا من تأخر الظفر" (1). {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} ظانًا أن ذلك يوصلك إلى مقصودك أو يقربك منه. والآثم: هو الذي يرتكب الإثم ويفعله المقدم على المعاصي. والكفور: هو المبالغ في الكفر، وهو نقيض الإيمان، أو هو الجاحد للنعمة من الكفران مقابل الشكر كما مَرَّ إيضاح ذلك. فالآثم هو الذي يفعل الإثم، والإثم قد يكون من أفعال الجارحة أو من أعمال القلب، ككتم العلم وكتم الشهادة والحسد والاعتقاد الباطل ونحو ذلك، قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]. والكفور قد يكون اعتقادًا باطلاً في القلب، أو جحدًا للنعمة باللسان، وكلاهما إثم، ولذا كان كل كفور آثمًا وليس كل آثم كفورًا، فرب مرتكب للإثم غير كافر ولا جاحد للنعمة. جاء في (الكشاف): "معناه: ولا تطع منهم راكبًا لما هو إثم داعيًا لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعيًا لك إليه ... فإن قلت: معنى (أو) ولا تطع أحدهما، فلا جيء بالواو ليكون نهيًا عن طاعتهما جمعيًا؟ قلت: لو قيل: (ولا تطعهما) جاز أن يطيع أحدهما. وإذا قيل: لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما، عن طاعتهما جميعًا أنهى" (2). وجاء في (التفسير الكبير): "ما الفرق بين الآثم والكفور؟ الجواب: الآثم: هو المقدم على المعاصي، أما ليس كل آثم كفورًا. وإنما قلنا: إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} فسمى الشرك إثمًا، وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ}، وقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي ... إن الآثم عام والكفور خاص" (3). وقال: (آثمًا) ولم يقل: (أثيمًا) لأنه أراد أن ينهى عن إطاعة مرتكب الإثم في كل أحواله، سواء بالغ في ارتكاب الآثام أم لم يبالغ. ولو قال: (ولا تطع منهم أثيمًا) لربكا أفهم أنه نهى عن إطاعة المبالغ في المعاصي دون من لم يبالغ، وهذا غير مراد. وقد تقول: ولم قال إذن في سورة القلم: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 10 – 12] ولم يقل (آثم)؟ والجواب: أن كل تعبير وقع في مكانه المناسب من أكثر من وجه: منها: أن في سورة القلم جاء بأوصاف المبالغة فقال: حلاّف، همّاز، مشّاء، منّاع، فناسب ذلك المبالغة في الإثم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الذي يفعل كل ذلك هو أثيم وليس آثمًا فقط. ومن ناحية ثالثة أن المبالغة في كل وصف منها يكون صاحبها أثيمًا فكيف إذا بالغ فيها كلها؟ فالهماز أثيم، والعتلّ أثيم، والزنيم وهو المعروف بالشر الظلوم أثيم، فكيف إذا جمعها كلها؟ فناسب كل تعبير مكانه. وقد تقول: ولم قال: {أَوْ كَفُورًا} فبالغ، ولم يقل: (أو كافرًا)؟ وجواب ذلك ذكرناه في قوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فإنه قال: {أَوْ كَفُورًا} ليشمل الكافر في قلبه وجاحد النعمة، وهو المقابل للشاكر. ولو قال: (أو كافرًا) لشمل واحدًا منهما. وهو المناسب أيضًا لما ورد في أول السورة {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 259 إلى ص 262. (1) الكشاف 3/300. (2) الكشاف 3/300. (3) التفسير الكبير 30/258.