عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿٢٣﴾    [الإنسان   آية:٢٣]
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23)} أسند التنزيل إلى نفسه وأكد ضمير المنزل بإن وبالضمير نحن، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} ثم أكد التنزيل بالمصدر المؤكد فقال: (تنزيلًا) فأكد المنزّل والتنزيل. وقد ذكر في هذه الآية المنزِّل وهو الله، والمنزَّل عليه وهو ضمير المخاطب بقوله: (عليك)، والمنزَّل وهو القرآن. وقد تقول: لقد أكد الخلق في أول السورة بإن وحدها فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فلم كان التأكيد هنا بإن وبالضمير وبالمصدر المؤكد؟ والجواب أن ذلك لأكثر من سبب: منها: أن أمر الخلق لم يختلف فيه أحد إلا القلة، فإن الكفرة والمؤمنين يقرّون بأن الخالق هو الله، حتى أن مشركي قريش كانوا يقرون ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] بخلاف تنزيل القرآن من الله فإنهم لا يقرون بذلك، والمنكرون له أكثر من المنكرين للخالق، فاحتاج التنزيل إلى تأكيد أكثر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التنزيل أهم من الخلق؛ لأن الغرض من الخلق هو العبادة والتكليف، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فعلّة الخلق هي العبادة، والعبادة إنما تكون بما يريده الله وما يأمر به عباده، وذلك يكون عن طريق ما ينزل من كتب، فكان التنزيل أهم؛ لأنه به تعرف العبادة التي يريدها ربنا، وتعرف الأوامر والنواهي التي يأمر بها وينهي عنها، فكان ذلك أدعى إلى التأكيد. جاء في (الكشاف): "تكرر الضمير بعد إيقاعه اسمًا لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرر في نفس رسول الله  أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابًا" (1). وقد تقول: لقد قال الله سبحانه في موطن آخر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال هنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} فقال في سورة الإنسان: (عليك) ولم يقل ذلك في آية الحجر، فما السبب؟ والجواب: أنه ذكر (عليك) في سورة الإنسان لأن بعدها الكلام على الرسول وتوجيه الخطاب إليه بالأوامر والنواهي فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} فكان المناسب أن يذكر (عليك). في حين لم يكن الأمر كذلك في سورة الحجر، بل الكلام على الذكر وحفظه، ولم يوجه للرسول أمر أو نهى، فقد قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ويمضي الكلام على القرآن {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} فلم يقتض ذلك ذكر (عليك)، فكل تعبير مناسب في مكانه. وقد تقول: ولم سماه في سورة الإنسان (القرآن)، وسماه في سورة الإنسان (القرآن)، وسماه في سورة الحجر (الذكر)؟ والجواب: أن اسم الكتاب المنزل على الرسول  هو القرآن، ولم يجر له ذكر أو وصف في سورة الإنسان فسماه باسمه. في حين ورد اسم القرآن في سورة الحجر في أول السورة: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}، وقال في آخرها: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ}. ثم إن هذا هو المناسب للآية قبلها وهو قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] فرد عليهم رب العزة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فأسماه كفار قريش ذكرًا، وردَّ عليهم الله بالتسمية نفسها، فكان كل تعبير مناسبًا لموطنه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 257 إلى ص 259. (1) الكشاف 3/300.