عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿٢١﴾    [الإنسان   آية:٢١]
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} قيل: إن معنى (عاليهم): (فوقهم) (1). والحق أنه ليس بمعنى (فوقهم) لأن الفوقية لا تقتضي الملامسة والملابسة، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق: 6] فإن السماء ليست ملامسة لنا وهي فوقنا، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] والطير فوقنا وليست ملامسة لنا. في حين أن معنى (عاليهم) أنهم يلبسونها وهي ملامسة لهم. فقوله: (عاليهم) يقتضى الملامسة والملابسة، بخلاف (فوقهم). ذكر أنهم يُحلّون أساور من فضة، وهي مقابل ما ذكر من الأغلال والسلاسل في أيدي أهل النار وأرجلهم. وقد ذكر هنا أساور الفضة، وذكر في مكان آخر من القرآن أساور الذهب، قيل: ذلك للدلالة على أنهم يلبسون مرة أساور الذهب ومرة أساور الفضة، أو على أنهم يجمعون بينهما. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ذكر ههنا أن أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب. قلت: هَبْ أنه قيل: وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسورون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تُزَاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينهما. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب وسوار من فضة" (2). وقيل: بل إنه ذكر ذلك في سورة الإنسان أنها حلية الأبرار، وأساور الذهب هي حلية المقربين، جاء في (تفسير ابن كثير): "وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]" (3). ويبدو لي أن ذكر أساور الفضة ههنا وأساور الذهب في مكان آخر لسبب يقتضيه المقام، وإليك إيضاح ذلك مما ورد فيه ذلك من سورة فاطر مثلاً: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }[فاطر: 29 – 35]. يتضح من هذا النص ما يأتي: 1- أنه ذكر أنهم يتلون كتاب الله. 2- أقاموا الصلاة. 3- أنفقوا مما رزقهم الله سرًّا وعلانية. في حين ذكر في سورة الإنسان أنهم يوفون بالنذر، وأنهم يطعمون الطعام مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. ولا شك أن الأعمال في سورة فاطر أعلى، فإن الإنفاق في السر والعلن أعم وأشمل مما جاء في سورة الإنسان، وإقامة الصلاة وتلاوة كتاب الله أكبر من الإيفاء بالنذر، والنذر مكروه شرعًا، وهو لا يأتي بخير، فهو صدقة البخيل، غير أن الإيفاء به واجب. 4- وذكر أنهم يرجون تجارة لن تبور، والتجارة إنما ترجي للربح. وهؤلاء يرجون تجارة غير خاسرة. ولا شك أن الله سيحقق لهم رجاءهم ويربحهم في تجارتهم، فكان من ذلك ما ذكره من أساور الذهب وغيرها. 5- ذكر في فاطر أن الله سبحانه يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. في حين قال في سورة الإنسان: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}، فذكر في فاطر الجزاء والزيادة من فضل الله، فناسب ذلك أن يذكر الأساور من الذهب والتحلية باللؤلؤ. 6- قال في سورة الإنسان: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}، وقال في سورة فاطر: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فزاد المغفرة على الشكر. 7- قال في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فقال: (أورثنا) و(اصطفينا) بإسناد الفعلين إلى ضمير المتكلم للتعظيم، وهذا يستعمله القرآن في موطن التكريم. 8- ذكر أنه اصطفاهم من عباده، وهذا تكريم آخر؛ فإن الاصطفاء يعني التفضيل. 9- ثم قسم هؤلاء المصطفين إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله. فعدّ منهم السابقين، وهم أعلى الخلق من المكلفين، فاستحق في هذا الموطن أن يذكر الزيادة في التكريم. فإنه لو قال: (يحلون فيها من أساور من فضة) لم يفهم أن ذلك لغير السابقين، فكان ذكر أساور الذهب هو المناسب. 10- ذكر فضله الكبير في سورة فقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فناسب ذلك ذكر أساور الذهب وزيادة وهي اللؤلؤ فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}. 11- وذكر أنهم حمدوا الله الذي أذهب عنهم الحزن، وذكروا جملة من النعم التي أنعم الله عليهم بها في الآخرة. وقد ورد ذكر فضل الله عليهم عدة مرات فقال: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، وقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}، وقال: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}، وذكر المغفرة والشرك مرتين فقال: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}، وقال: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فناسب كل ذلك أساور الذهب واللؤلؤ. 12- ثم انظر كيف أنه لما ذكر الطائعين وهم الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة قال: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}، ولما ذكر الظالم لنفسه والمقتصد وذكر أنه يدخلهم جنات عدن ويكرمهم قالوا: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} بزيادة اللام في (لغفور)؛ لأن هؤلاء لا يدخلونها لولا المغفرة، وأنهم يحتاجون إليها أكثر من الأولين. وقد تقول: ولم قال في سورة الإنسان: (وحُلّوا) بالفعل الماضي، وقال في سورة فاطر: (يُحَلَّون) بالمضارع؟ والجواب: أنه لما أخبر في سورة الإنسان عنهم بالفعل الماضي فقال إنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا وجزاهم بما صبروا، ناسب أن يقول: (وحُلّوا) بالفعل الماضي. ولما ذكر في سورة فاطر أنهم يدخلون جنات عدن بالفعل المضارع، ناسب أن يقول: (يُحَلّون) بالفعل المضارع. وقد تقول: ولم قال إذن في سورة الإنسان: (يطاف عليهم) و(يسقون) و(يطوف عليهم) بالفعل المضارع؟ قلنا: إن ذلك دلال على تجدد الطواف والسقي واستمرارهما، ولو أخبر بالفعل الماضي لم يفد ذلك. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (طهور) صيغة مبالغة بمعنى الطاهر، وتأتي أيضًا بمعنى المطهِّر، واختار هذه الصيغة للدلالة على أن هذا الشراب طاهر مطهّر، يل هو الغاية في الطهارة والتطهير. جاء في (البحر المحيط): "طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم" (4). وجاء في (الكشاف): "{شَرَابًا طَهُورًا } ليس برجس كخمر الدنيا ... أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها، أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقًا من أبدانهم له ريح كريح المسك" (5). وجاء في (التفسير الكبير): "الطهور فيه قولان: الأول: المبالغة في كونه طاهرًا ... القول الثاني في الطهور: أنه المطهر، وعلى هذا التفسير أيضًا في الآية احتمالان: أحدهما: ... هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى. وثانيهما: ... يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك. وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهرًا؛ لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية" (6). والظاهر أن هذه الصفة تجمع كل هذه المعاني، فهو شراب طاهر مطهر بكل ما ذكر وما لم يذكر من المبالغة فيهما مما يقتضيه الحال. وإسناد سقيه إلى الرب سبحانه يدل على فضل هذا الشراب، وأنه أعلى مما ذكره من النوعين السابقين، فقد قال في الأول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} ولم يذكر ساقيًا لهم، وقال في الشراب الثاني: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا} ببناء الفعل للمجهول ولم يذكر الساقي. وفي هذا الشراب قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} بإسناده إلى الرب سبحانه، فدل ذلك على فضل هذا الشراب. جاء في (التفسير الكبير): "فإن قيل: قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} هو عين ما ذكره تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل أو هو نوع آخر؟ قلنا: بل هذا نوع آخر ويدل عليه وجوه: (أحدها) دفع التكرار. و(ثانيها) أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره" (7). وجاء في (روح المعاني): "هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين ... كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية" (8). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 251 إلى ص 257. (1) البحر المحيط 8/399. (2) الكشاف 3/299، وانظر البحر المحيط 8/400. (3) تفسير ابن كثير 4/457. (4) البحر المحيط 8/401. (5) الكشاف 3/299. (6) التفسير الكبير 30/254. (7) التفسير الكبير 30/254، وانظر أنوار التنزيل 776. (8) روح المعاني 29/164.