عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿١٥﴾    [الإنسان   آية:١٥]
  • ﴿قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿١٦﴾    [الإنسان   آية:١٦]
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} لما ذكر أمر الفاكهة وأنها مذللة لهم يتناولونها كيفما شاءوا ذكر بعدها التنعم بالشراب، فذكر أنه يطاف عليهم به، وأنه مذلل لهم أيضًا لا يبذلون جهدًا للوصول إليه بل يطاف عليهم به، فقدم ذكر المطعوم وتلاه بذكر المشروب، وهذا شأن القرآن الكريم، فإنه يقدم الأكل على الشرب حيث اجتمعا، قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، وقال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60]، وقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. ومعنى {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}: "أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفتها. فإن قلت: ما معنى (كان)؟ قلت: هو من (يكون) في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيمًا لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه (كان) في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}" (1). ومعنى {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} أنها جاءت على مقدار حاجتهم فلا يزيد عليها ولا ينقص عنها، فلا تقول: ليته لم يفضل أو ليته كان أكثر . جاء في (البحر المحيط): "ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها. وقيل: الضمير للطائفين بها، يدل عليه قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} على أنهم قدروا شرابها على قدر الريّ، وهو ألذ الشراب، لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز" (2). وقد تقول: ولم ذكر هنا أن الآنية من فضة وأن أكوابها قوارير من فضة، في حين ذكر في مكان آخر أنه يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب؟ فنقول: إن كل موضع يقتضي ما ذكر فيه، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى في سورة الإنسان: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} وقال في سورة الزخرف: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 67 – 73]. ومن النظر في آيات النصين يتبين ما يأتي: 1- أنه ذكر في آيات الزخرف أن هؤلاء متقون. ۲- وأضافهم إلى نفسه فقال: (يا عباد). 3- أنه طمأنهم من الخوف والحزن فقال مخاطبًا لهم: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}. في حين قال في سورة الإنسان: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} بصيغة الغائب، والخطاب بالطمأنة أعلى من الإخبار بصيغة الغيبة. 4- ذكر أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام {الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}، وهذا يعني التصديق بالقلب والطاعة والانقياد لله بالعمل، ويدخل في هذا ما ورد في سورة الإنسان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا .....} فإن هذا جزء من صفات المتقين الذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين. فما ذكره في الزخرف أعم وأشمل مما ذكره في سورة الإنسان. 5- ذكر في سورة الزخرف أنه سبحانه ناداهم مخاطبًا لهم بقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}. في حين ذكر ذلك بصورة الغائب في سورة الإنسان فقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} والتكريم بالخطاب أعلى من الإخبار بالغيبة. ٦- ذكر في آيات الزخرف أنه أدخلهم الجنة هم وأزواجهم زيادة في الإكرام والنعيم فقال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}. ٧- ثم قال في سورة الزخرف: (تحبرون)، وقال في سورة الإنسان: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، ومعنى الحبور: السرور والحسن والبهاء والجمال والنضارة والنعمة وأثرها والإكرام المبالغ فيه وسعة العيش. جاء في (لسان العرب): "الحَبْر والسَّبْر والحِبْر والسِّبْر كل ذلك الحسن والبهاء ... وقيل: هو الجمال والبهاء وأثر النعمة ... حبرني هذا الأمر حبرًا، أي سرني ... وأحبرني الأمر: سرّني ... وفي التنزيل العزيز {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي يُسرون، وقال الليث: يحبرون: ينعمون ويكرمون ... وقال الأزهـري: الحبـرة في اللغة: النعمة التامة ... الحَبرة بالفتح: النعمة وسعة العيش ... وقال الزجاج في قوله تعالى: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} معناه تكرمون إكرامًا يبالغ فيه" (3). وجاء في (الكشاف): "{تُحْبَرُونَ} تسرون سرورا يظهر حباره، أي أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ... والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل" (4). فشمل ذلك ما في سورة الإنسان وزيادة. ٨- قال في سورة الزخرف إن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ۹- وإنهم فيها خالدون. ۱۰- وذكر أن لهم فيها فاكهة كثيرة. فكان ما ذكره في سورة الزخرف أعلى، فناسب ذلك ذكر الصحاف من الذهب والأكواب، وناسب في سورة الإنسان ذكر الآنية من الفضة وأن الأكواب قوارير من فضة، وإن كانت فضة الجنة لا تشبه ها فضة الدنيا، إذ ليس في الدنيا قوارير من فضة. وهناك أمر آخر حسن ذكر الذهب في آيات الزخرف وهو أن جو السورة شاع فيه ذكر الذهب والزينة والتنعم به. فقد قال في سورة الزخرف: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 – 35]. فإذا كان ذلك في الدنيا وهو أن يجعل لبيوت الكفرة سُقُفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ويجعل لهم زخرفًا، والزخرف هو الزينة والذهب (5)، فلا يناسب أن يكون النعيم في الآخرة أقل من ذلك. ومن الظاهر أن سُقُف الفضة والمعارج أدل على النعيم من صحاف الفضة. ثم إنه لما قال في ختام هذه الآيات: {وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ثم ذكر جزاءهم في الآخرة فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ناسب أن يكون جزاء المتقين في الأخرة أعلى بكثير مما كان سيعطيه للكافرين في الدنيا. وجاء في السورة أيضًا أن فرعون استكبر في نفسه وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} واستخف بموسى قائلًا: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} فلا يناسب أن يذكر أن صحاف الجنة من فضة، فناسب ذكر الصحاف من الذهب في الزخرف من كل وجه . والأظهر - والله أعلم - أنه يطاف عليهم أحيانًا بآنية من ذهب وأحيانًا بآنية من الفضة العجيبة، وقد يجمع بينهما زيادة في الإكرام والنعيم، غير أنه ذكر كل نوع فيما يناسبه من المقام. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 244 إلى ص 248. (1) الكشاف 3/298، وانظر البحر المحيط 8/397. (2) البحر المحيط 8/397. (3) لسان العرب (حبر) 5/229. (4) الكشاف 3/102، وانظر البحر المحيط 8/26. (5) انظر لسان العرب (زخرف) 11/32، البحر المحيط 8/15، الكشاف 3/96.