عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}
قال هنا: (وجزاهم)، وقال في الآية السابقة: (ولقاهم) ؛ لأن ذلك ليس جزاء وإنما هو قبل الجزاء، فال لقاء أولًا، والجزاء بعد، فلقوا أولاً نضرة وسرورًا، وجزاهم بعد اللقاء جنة وحريرًا.
وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} يحتمل أن يكون معناه (بصبرهم) فتكون (ما) مصدرية، ويحتمل أن يكون (بالذي صبروا عليه) من الطاعات والإيثار والحاجة.
وحذف العائد ليشمل الاثنين، أي بصبرهم وما صبروا عليه، فيكون من التوسع في المعنى والله أعلم.
ولا أذهب إلى وجوب تماثل حرفي الجر الداخلين على الموصول والعائد ليجوز حذف العائد المجرور بالحرف، وإنما يكفي تعين الحرف وعدم اللبس، لورود ذلك في الفصيح. قال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} [الشورى: 23] أي به، فقد حذف العائد مع حرف الجر ولم يدخل على الموصول مثله، وقال: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60]. أي به (1). وقد اختلف الحرفان.
وقوله : {جَنَّةً وَحَرِيرًا} جمع أمرين : الجنة والحرير.
والجنة في اللغة هي البستان، قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17]، وقال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]. ثم أطلقت الجنة على دار السعادة في الآخرة.
والحرير معلوم.
فالجنة للأكل، والحرير للبس، ذلك أنهم أطعموا لوجه الله، فجزاهم بذلك جنة يأكلون منها، وزاد عليه الحرير يلبسون منه تفضلاً منه، ذلك أن الله يجزي الحسنة بخير منها، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]. جاء في (الكشاف): "{بِمَا صَبَرُوا} بصبرهم على الإيثار ...
فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟
قلت: المعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هني، وحريرًا فيه ملبس بهي" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 240 إلى ص 241.
(1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/42.
(2) الكشاف 3/297، وانظر البحر المحيط 8/396.