عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿١٠﴾    [الإنسان   آية:١٠]
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} جملة مستأنفة تفيد التعليل، وهي تعلل الأمرين المذكورين في الآية قبلها، وهما قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، وقوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}. فبالنسبة إلى القول الأول فالمعنى: إنما نطعمكم لوجه الله لأننا نخاف ذلك اليوم، فإن لم نطعمكم خفنا أن يعذبنا الله وألا يقينا شر ذلك اليوم، فهي تعليل للإطعام لوجه الله. وبالنسبة إلى قوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} فالمعنى: أننا لا نريد منكم الجزاء ولا الشكور خوفًا من ربنا أن يعذبنا لطلب المكافأة والشكر على ما قدمنا. فهذه الآية تعليل للآية قبلها بكل جزئياتها. وكسر همزة (إن) ليكون الخوف من هذا اليوم عامًا لا مخصصًا بالأمر المذكور. ولو فتح لكان الخوف تعليلًا لما قبلها فقط، أي إنا لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا لأننا نخاف من ربنا. وفتح الهمزة أيضًا يعني تعلـق المصدر المؤول بأحد الفعلين (نطعمكم) أو (نريد)، والأقرب أن يكون متعلقًا بقوله: (نريد) لئلا يفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، فيكون الخوف من إرادة الجزاء لا من الإطعام، أي لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا لأننا نخاف، فيقتصر المعنى على أمر واحد، فالكسر أولى على كل حال. جاء في (الكشاف): {إِنَّا نَخَافُ} يحتمل أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة" (1). ووصف اليوم بالعبوس على المجاز، فكأنه هو عابس حقيقة فأضفى عليه الحياة والشعور، كما يقال: نهارك صائم وليلك قائم، وقوله: (وما ليل المطيّ بنائم)، أو هو على قصد إسناد العبوس لأهل ذلك اليوم، أي عابس أهله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو لإرادة الشمول والعموم والمبالغة، أي عابس هو وأهله، فيكون العبوس وصفًا عامًا لليوم ومن فيه، وجاء بالصفة على زنة المبالغة للدلالة على شدة العبوس والاتصاف به اتصافًا بليغًا. والقمطرير: الشديد العبوس، جاء في (الكشاف): "ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم ... وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. و(القمطرير): الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه" (2). ومن الملاحظ أنه قال في هذه الآية: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} فذكر الرب، وقال في الآية السابقة: {لِوَجْهِ اللَّهِ} فذكر (الله)، وذلك ليدل على أن الله هو الرب لا غيره، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإن قسمًا يشركون بربهم، وقسمًا يرون أن الرب غير الله، كما قال تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] فإن قسمًا من الناس يجعلون مع الله أربابًا فيشركون به كما دلت الآية السابقة، وقسمًا يتخذون من دون الله أربابًا كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] فأراد هنا أن يعلمنا أن الله هو الرب لا رب غيره وليس معه شريك فقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .... إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} فذكر (الله) وذكر أنه ربهم فجمع بين المعنيين. لقد ذكر في هذه الآيات عبادتين ظاهرتين وهما الوفاء بالنذر والإطعام، وعبادتين قلبيتين وهما الخوف من اليوم الآخر والإخلاص لله، ونفى عنهم إرادة شيئين وهما الجزاء والشكور، وذكر صنفين ممن يطعمون: صنفًا مسالمًا وصنفًا محاربًا وهو الأسير، وصنفين من المسالم وهما المسكين واليتيم وأحدهما بالغ والآخر قاصر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 236 إلى ص 238. (1) الكشاف 3/297. (2) الكشاف 3/297.