عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿٩﴾    [الإنسان   آية:٩]
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} ذكر أمرين في إطعامهم الطعام: أنهم يطعمون الطعام وهم محتاجون إليه وذلك قوله: {عَلَى حُبِّهِ}، وأنهم مخلصون لله في إطعامهم وذلك قوله: {لِوَجْهِ اللَّهِ} وهذا أعلى أنواع الإطعام. وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ولم يقل: (نحن نطعمكم لوجه الله) وذلك لإرادة تخصيص الإطعام بذلك، وأنهم لا يطعمون إلا لوجهه تعالى غير مبتغين شيئًا آخر. وهذا أعلى أنواع الإخلاص، فإنه ليس فيه شائبة شرك أو رباء. ولو قال (نحن نطعمكم لوجه الله) من دون (إنما) لأفاد أنهم يطعمون لوجه الله ولا ينفون الإطعام لغيره. أما في الآية فإنه أفاد الحصر، أي أنهم لا يفعلون ذلك إلا له سبحانه. وهذا يفيد أن الأعمال كلها ينبغي أن يبتغي بها وجه الله حصرًا لا لشيء آخر. وقد تقول: وإن قولك: (نحن نطعمكم لوجه الله) يفيد الحصر أيضًا؟ فنقول: نعم إنه يفيد الحصر ولكنه حصر بالفاعل، أي نحن لا غيرنا نطعمكم لوجه الله، فكأنه تعريض بآخرين، وهذا المعنى غير مطلوب ولا يصح أيضًا، فإن هناك غيرهم من يطعم لوجه الله. في حين قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إنما هو تخصيص الفعل بأنه لوجه الله لا تخصيص أنهم المطعمون دون غيرهم، فكان ما ذكره أولى. {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي لا نريد منكم مكافأة على إطعامنا بالعمل، ولا شكرًا باللسان، فإن الجزاء هو المكافأة بالعمل، والشكر هو الثناء باللسان، فهم لا يريدون منهم أن يكافئوهم ولا يشكروهم. وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فالذي يبتغي وجه الله وحده لا يريد شيئًا آخر. جاء في (فتح القدير): أن قوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} تقرير وتأكيد لما قبله "لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه" (1). ولم يقل: (يقولون أو قالوا إنما نطعمكم لوجه الله) وإنما حذف فعل القول، وذلك ليشمل القول بلسان الحال وبلسان المقال، فسواء قالوا بذلك بلسانهم أو حكى الله عما في نفوسهم فكل ذلك خير وأجره عظيم. جاء في (الكشاف): {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولًا باللسان منعًا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، وأن يكون قولهم لهم لطفًا وتفقيهًا وتنبيهًا على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله ... ويجوز أن يكون ذلك بيانًا وكشفًا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئًا. وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علم الله منهم فأثنى عليهم" (2). وجاء في (البحر المحيط): "لا نريد منكم جزاءً، أي بالأفعال، ولا شكورًا، أي ثناء بالأقوال" (3). وقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ولم يقل: (لا نريد جزاء ولا شكورًا) وذلك لأنهم يريدون الجزاء والشكور من رب العالمين، فهم لم ينفوا إرادة الجزاء والشكور، وإنما أرادوه ممن يطعمون لوجهه لا منهم، ولو لم يذكر (منكم) لنفى الإرادة على وجه الإطلاق، وهو ليس بمراد ولا ينبغي أن يراد. وقدم الجزاء على الشكور؛ لأن الجزاء بالفعل أهم من الشكر باللسان. والناس يعملون في هذه الحياة لأجل الجزاء، سواء تبعه شكر أم لا، والشكور ثناء اللسان ولا يعد جزاء على العمل. وجاء بـ (لا) مع الشكور فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ولم يقل: (جزاء وشكورًا) ليفهم أنهم لا يريدون أي واحد من هذين، سواء كانا على وجه الاجتماع أم الافتراق، ولو قال: (لا نريد منكم جزاءً وشكورًا) لربما أفهم أنهم لا يريدونهما مجتمعين، ولو اكتفوا بواحد منهما لدخل في الإرادة. وقال: {لَا نُرِيدُ} ولم يقل: (لا نطلب) لأن الإنسان قد يريد ولا يطلب، فنفي الإرادة أبلغ من نفي الطلب، لأنه ينفي الطلب وزيادة. وقال: (شكورًا) ولم يقل: (شكرًا) ذلك أن (الشكور) يحتمل الجمع والإفراد، والجمع يدل على الكثرة والتعدد فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي لا نريد الشكر وإن كان كثيرًا متطاولًا، فقد يكون الشكر عن الفعل مرة واحدة، وقد يكثر ويعاد، ولا شك أن كثرة الشكر أدل على الاعتراف بالفضل والإحسان. ثم إن الإطعام قد يتكرر فيتكرر الشكر عن كل مرة فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي وإن كثر إطعامنا لكم وتكرر، فهذا أدل على الإخلاص. وإن كان الشكور مصدرًا فهو بزنة الجمع، وربما كانت زيادة المبنى دالة على زيادة المعنى ههنا وإن لم يكن ذلك مطردًّا. وقد يكون أتى بذلك ليتسع المعنى فيجمع بين الجمع والجنس، فالمصدر يدل على الجنس كله والجمع يدل على مجموع الأفراد، فنفوا إرادة الشكر على كل حال سواء كان على حال الجمع أم الجنس أم الأفراد، وذلك أعم وأشمل. هذا علاوة على موافقة هذا التعبير لخواتيم الآية. جاء في (لسان العرب): "وقوله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} يحتمل أن يكون مصدرًا مثل (قعد قعودًا)، ويحتمل أن يكون جمعًا مثل: برد وبُرود، وكفر وكفور" (4). والظاهر – والله أعلم – أن القرآن يستعمل (الشكور) لما هو أكثر من (الشكر)، فقد ورد لفظ (الشكور) مرتين في القرآن الكريم: إحداهما: هذه الآية التي وردت في سورة الإنسان، والأخرى: في قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. وأما لفظ (الشكر) فقد ورد مرة واحدة، وذلك في سورة سبأ وهو قوله تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وبالنظر في هذه الآيات يتبين لنا ما يأتي: 1- إن كلمة (الشكر) استعملها مخاطبًا آل داود، فقال: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} وآل داود قلة بالنسبة إلى عموم المؤمنين. 2- وأما ما في سورة الفرقان فهو يشمل عموم المؤمنين إلى قيام الساعة، وشكرهم في الليل والنهار فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. 3- وكذلك ما في سورة الإنسان فإنه ذكر من يُطِعم الطعام على حبه ومن يُطعَم، وهم كثرة متكاثرون إلى قيام الساعة. فاستعمل (الشكور) لما هو أكثر، ذلك أنه كلما كثر المؤمنون كثر الشكر فزاد في البناء لزيادة القائمين به، واستعمل البناء الأقل لمن هم أقل، فناسب بين البناء وصاحبه، ومثل هذه المناسبة كثير في القرآن الكريم (5). ثم لننظر من ناحية أخرى أنه قال في سورة الفرقان: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} فجاء بالفعل (يذّكر)، وهذا البناء في الاستعمال القرآني يدل على المبالغة في الفعل والإكثار منه لما فيه تضعيفين (6). فجاء بـ (الشكور) مع الفعل الذي يدل على المبالغة والكثرة في الفعل مما يدل على أنه يفيد المبالغة في الشكر، إذ لا شك أن المبالغ في التذكُّر مبالغ في الشكر أيضًا، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 231 إلى ص 236. (1) فتح القدير 5/337 – 338، وانظر روح المعاني 29/156. (2) الكشاف 3/297. (3) البحر المحيط 8/395، وانظر روح المعاني 29/156. (4) لسان العرب (شكر) 6/93، وانظر تاج العروس (شكر) 3/312. (5) انظر كتاب (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) صفحة 52 وما بعدها. (6) م. ن. ص 53 وما بعدها.