عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾    [الإنسان   آية:٨]
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} {عَلَى حُبِّهِ} الأظهر أن الضمير في (حبّه) يعود على الطعام، أي أنهم يطعمون الطعام مع اشتهائه والحاجة إليه، نظير قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (1). وقيل: المعنى على حب الإطعام، بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف (2)، فالضمير يعود على مصدر (يطعمون) وهو الإطعام. وقيل: إن الضمير يعود على الله، والمعنى: أنهم يطعمون الطعام على حب الله، أي لوجهه وابتغاء مرضاته (2). وهذا المعنى مذكور فيما بعد في قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}. وقيل: إن المعنى الأول، أي (على حب الطعام) أمدح "لأن فيه الإيثار على النفس، وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر" (3). وأعلاها أن يكون لكل ذلك، فهم يطعمون الطعام مع حاجتهم إليه واشتهائه فيكون ذلك من باب الإيثار، ويفعلونه بطيب نفس من غير تكدير ولا منة فيكون من باب الإحسان، مبتغين بذلك وجه الله تعالى ورضاه خالصًا عملهم له، فيكون من باب الإخلاص، فيجتمع بذلك الإيثار والإحسان والإخلاص. ثم إنه قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فذكر الطعام، ولم يقل: (ويطعمون على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا)؛ وذلك لأنه أراد أن يعود الضمير عليه، ولو لم يذكر الطعام لم يعد الضمير على مذكور، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لو لم يذكر الطعام لانتفى المعنى الأول، وهو أولى المعاني وأظهرها وأهمها، والذي به ينال البر ولا ينال البر إلا به، كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. فذكر الطعام أفاد ثلاثة معان وهي المعاني التي ذكرناها، ولو حذفه لأفاد معنيين: الأول: أن يكون المعنى (على حب الله) وهو الأظهر، وهو ما أفادته الآية بعدها. والآخر: أن يكون المعنى (على حب الطعام) وهو ما يقدر من الفعل (يطعمون) فكان ذكره أولى على كل حال. جاء في (روح المعاني): "وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس، ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين" (4). ثم إنه قدم المسكين على اليتيم، واليتيم على الأسير. قدم المسكين على اليتيم؛ لأن المسكين محتاج على الدوام، وإطعامه قد يكون على الوجوب وقد يكون على التطوع، فهو من الأصناف المذكورين في مصارف الزكاة. أما اليتيم فقد لا يكون محتاجًا، وقد يكون غنيًّا، بخلاف المسكين، ولذا لم يدخل فيمن تصرف إليهم الزكاة. أما الأسير فإنه قد يكون كافرًا. فكان التقديم بحسب الرتبة، فقدم المسكين على اليتيم، واليتيم على الأسير. والمسكين واليتيم قد يكون إعطاؤهما من باب الواجب، بخلاف الأسير فإنه يدخل في باب التطوع، "وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام، ولا تصرف إليهم الواجبات" (5). وبهذا يكون قد بدأ بالواجب وهو الفاء بالنذر، ثم بدأ بما هو أولى وهو المسكين وهو صاحب الحاجة الدائمة، وقد أدخله الله فيمن تجب لهم الزكاة، ثم اليتيم وهو قد يكون غير محتاج ويكون مكفولًا حتى يزول يتمه، ثم الأسير الذي لا تصرف إليه الواجبات من قبل الأفراد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التقديم جرى بحسب الكثرة. فإن المساكين أكثر من اليتامى، لأن اليتم يزول حتمًا بالبلوغ فلا يسمى بعد ذلك يتيمًا، بخلاف المسكين فإنه يكون صغيرًا أو كبيرًا، واليتامى أكثر من الأسرى؛ لأن الأسرى إنما يكونون من أوزار الحرب، وأما اليتامى فهم موجودون في كل وقت وعلى أية حال، فكان التقديم بحسب الكثرة. ثم إن التقديم أيضًا مرتب بحسب القدرة على التصرف. فالمسكين له الأهلية الكاملة على التصرف، وأما اليتيم فأهليته ناقصة حتى يزول يتمه، وأما الأسير فهو أقل تصرفًا لأنه كالمحجور عليه، فليس له أن يتصرف في ذهابه وإيابه وعمله حتى يتخير فيه الإمام؛ فالآية مرتبة بحسب القدرة على التصرف. وذكر الأسرى هنا مناسب لذكر السلاسل والأغلال مع الكافرين؛ لأن الأسير مقيد مغلول. ومن الملاحظ أنه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} ولم يقل: (يتصدقون) لئلا يخص ذلك الصدقات أو يخص من تجب عليهم الصدقة أو لهم، وإنما أراد فعل الخير عمومًا سواء كان صدقة أم إكرامًا، وسواء كان الفاعل غنيًّا أم فقيرًا، ممن تجب عليهم الصدقة أو لا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 228 إلى ص 231. (1) الكشاف 3/296. (2) روح المعاني 29/155. (3) البحر المحيط 8/395، الكشاف 3/296، أنوار التنزيل 774. (4) البحر المحيط 8/395. (5) روح المعاني 29/155. (6) روح المعاني 29/155.