عرض وقفة أسرار بلاغية
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
يستعمل القرآن (الأبرار) لبني آدم، ويستعمل البررة للملائكة. ولم يستعمل الأبرار للملائكة ولا البررة ل لأناسي، قال تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 – 16] يعني الملائكة. إن (الأبرار) من جموع القلة فاستعملها للقلة النسبية، ذلك أن الأبرار قلة من بني آدم، وأما الملائكة فكلهم بررة فاستعمل لهم جمع الكثرة.
جاء في (معاني الأبنية): "وقد يؤتى بجمع القلة للدلالة على قلة نسبية لا حقيقية، بمعنى أنه إذا قيس المعدود بمقابله كان قليلًا، فيستعمل للأكثر جمع الكثرة، ولما هو دونه في الكثرة جمع القلة وإن كان كثيرًا في ذاته، فمن ذلك استعمال الأبرار والبررة.
فقد وردت (الأبرار) في ستة مواطن من كتاب الله وهي كلها في المؤمنين، وهم ولا شك يزيدون على العشرة، قال تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]، وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5]،
وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 – 14]، وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 – 23]، وقال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [ آل عمران: 198]، وقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18].
ولم يرد لفظ (البررة) إلا في موطن واحد وهو في صفة الملائكة وهو قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 – 16] ولعل ذلك يعود إلى أن الأبرار إذا قيسوا بالفجار كانوا قلة، فجيء بالفجار على جمع الكثرة، والأبرار على جمع القلة، وهذا المعنى يذكره القرآن في أكثر من موطن،
من ذلك قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقوله : {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف: 103]، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] فجيء بالجمع للدلالة على الكثرة؛ لأنهم كلهم كذلك، بخلاف البشر" (1).
{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}
الكأس: هي الزجاجة إذا كان فيها شراب، فإن كانت فارغة فلا تسمى كأسًا، وإنما هي زجاجة (2).
ذكر في الآية صنفين من المؤمنين:
الأبرار، وذكر أنهم يشربون من كأس ممتزجة بالكافور، وذكر صنفًا آخر أسماه (عباد الله) قيل: وهم المقربون، وذكر أنهم يشربون من العين خالصة غير ممتزجة. جاء في (تفسير ابن كثير): "أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا بلا مزج ويروون بها، ولهذا ضمن (يشرب) معنى (يروي) حتى عداه بالباء، ونصب عينًا على التمييز" (3).
ومن الملاحظ أنه قال في الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}، وقال في المقربين: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فعدّى الفعل (يشرب) مع الأبرار بمن وعداه مع المقربين بالباء، وذلك ليفرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقربين، وليخبرنا أن جزاء المقربين أعلى، وذلك من عدة نواح منها:
1- أنه ذكر أن الأبرار يشربون من الكأس، وأما المقربون فإنهم يشربون من العين، فهم ينزلون بالعين ويشربون منها، فهم يتلذذون بالشرب وبالمكان. جاء في (معاني النحو):
"وفيها معنى آخر، وهو أن الباء تفيد الإلصاق، فقولك: (يشربون بالعين) معناه أنهم يكونون بها، كما تقول: (أقمنا بالعين وأكلنا وشربنا بها) أي هم قريبون من العين يشربون منها. بخلاف قولك: (يشربون منها) فإنه ليس فيه نص على معنى القرب من العين، فقولك: (أكلت من تفاح بستانك) لا يدل دلالة قاطعة على أنك كنت بالبستان، بل ربما حُمل
إليك.
فقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} يدل على أنهم نازلون بالعين يشربون منها، فهو يدل على القرب والشرب، فالتمتع حاصل بلذتي النظر والشراب، بخلاف الأولى.
جاء في (البرهان) أن "العين ههنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه نحو (نزلت بعين) فصار كقوله: مكانًا يشرب به" (4).
2- إن الأبرار يشربون من كأس ممزوجة على قدر أعمالهم، أما المقربون فيشربون من العين خالصة صرفًا.
3- إن الفعل المتعدي بالباء ضمن معنى (يروي)، فمعنى {يَشْرَبُ بِهَا}: يروى بها.
جاء في (معاني القرآن) للفراء: "وكأن {يَشْرَبُ بِهَا}: يروى بها وينقع" (5).
4- وذكر أن المقربين يفجرونها تفجيرًا، أي إنهم يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم، وذلك أن يثقبوها بقضبان معهم من ذهب فيتفجر بها الماء إلى حيث أرادوا، فهي تجري عند كل واحد منهم حيث أراد من منزله.
وذكر المصدر (تفجيرًا) ليدل على أن تفجيرها لا يمتنع عليهم (6)، وأنها تتفجر بالماء الغزير.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 224 إلى ص 227.
(1) معاني الأبنية في العربية 137 – 138.
(2) انظر فقه اللغة للثعالبي 50.
(3) تفسير ابن كثير 4/454.
(4) معاني النحو 3/28، وانظر البرهان 3/338 – 339.
(5) معاني القرآن 3/215، وانظر البحر المحيط 8/395.
(6) انظر الكشاف 3/296، البحر المحيط 8/395، روح المعاني 29/155.