عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿٣﴾    [الإنسان   آية:٣]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) } قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فأكد الهداية بإنَّ كما أكد الخلق، لأن الهداية أمر مهم، وهي الغاية من خلق الإنسان، فهي لا تقل عن الخلق أهمية، بل ربما فاقته لأنها العلة الأولى للخلق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولذلك كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَا}، فنسب الخلق إلى نفسه بصيغة التعظيم وأكده بإن قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ} فنسبه إلى نفسه بصيغة التعظيم وأكده بإن. ثم إن الهداية وهي تبيان المنهج الصحيح والصراط المستقيم أمر صعب لا يستطيعهما أحد غير الله، وقد ضل الناس فيها ضلالاً بعيدًا وتفرقوا شيعًا وأحزابًا وجماعات، فأسند ذلك إليه، فهو الخالق وهو الهادي، فهو مولي جميع النعم. فمعنى {هَدَيْنَاهُ}: "بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله جل وعلا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: ۱۷]" (1). وقال: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فعدى الفعل بنفسه إلى السبيل ولم يعده بإلى؛ وذلك لأن التعدية بإلى تقال لمن لم يكن في السبيل، والتعدية المباشرة تقال لمن كان فيه ولمن لم يكن فيه (2). فجمع في ذلك نوعي الهداية؛ الإيصال إلى السبيل وتعريفه به، فاستحق ربنا الشكر من كل ناحية. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} جاء بـ (شاكر) على صيغة اسم الفاعل، و(كفور) على المبالغة؛ ذلك أن الإنسان يبالغ في الكفر دون الشكر. ولم يقل: (وإما شكورًا وإما كفورًا) ذلك أن الشكور من العباد قليل، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ولو قال ذلك لأخرج الشاكرين. جاء في (البحر المحيط): "ولما كان الشكر قَلَّ من يتصف به قال: (شاكرًا)، ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان، بخلاف الشكر، جاء (كفورًا) بصيغة المبالغة، ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد" (3). وجاء في (تفسير البيضاوي): "ولعله لم يقل: (كافرًا) ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل وإشعارًا بأن الإنسان لا يخلو من كفران غالبًا، وإنما المؤاخذ به التوغل فيه" (4). ثم إنه لم يقل: (كافرًا) لأمر آخر، ذلك أن القرآن لم يستعمل كلمة (كافر) بمقابل (شاكر)، وإنما يستعملها بمقابل (مؤمن)، قال تعالى: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن : ٢]. بخلاف كلمة (كفور) فإنه يستعملها لما يقابل المؤمن ولما يقابل الشكور، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]. فههنا استعملها بما يقابل المؤمن، ذلك أن الذي يجعل الله من عباده جزءًا هو كافر غير مؤمن. وكذلك آية فاطر، فإنه واضح أن المقصود بالمذكورين فيها هم كفار وليسوا مؤمنين. وفي سورة الإنسان استعملها لما يقابل الشاكر فقال: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. فالكفور هنا مبالغة من كفران النعم وهو ما يقابل الشكور، يدلك على ذلك اللام في (لربه) أي لنعم ربه، ولو كان يقصد بالكفور ما يقابل المؤمن لقال: (وكان الشيطان بربه كفورًا) فإن الكفر الذي هو نقيض الإيمان يعدى بالباء، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150]، وقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]، وقال: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13]، وقال: {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30]. وقد تقول: ولكننا لا نقول: (هو يكفر الله). فأقول: إذا كان الكفر بمعنى كفران النعم فإنا نقول: (هو يكفر الله) بتعدية الفعل بنفسه، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152]، فإن جاء منه اسم الفاعل أو المبالغة صح أن يقوى باللام كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج : 16]، وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة : 97]، ونحو قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. جاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "أي مبالغًا في كفران نعمه تعالى ... وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة، إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر ... ويُشْعِر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان، وليس بذاك" (5) فاستعمل في آية الإنسان الكفور لما يقابل الشاكر ولم يستعمل الكافر. واختار الشكر ههنا على الإيمان فلم يقل: (إما مؤمنًا وإما كفورًا)، ذلك لأن نعمة الخلق والهداية تستدعي الشكر لا مجرد الإيمان، وهو نظير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]. كما ناسب ذلك قوله تعالى في السورة: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، وقوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}. وهناك أمر آخر حسن اختيار الشكر، وهو أنه قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فاستعمل كلمة (السبيل)، وذلك أن السبيل هو الطريق المسلوك الواضح السهل. جاء في (لسان العرب): "السبيل: الطريق وما وضح منه ... وسبيل سابلة: مسلوكة ... وأسبلت الطريق: كثرت سابلتها" (6). قال تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] ولم يقل كما قال في سورة البلد: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] والنجد: هو الأرض المرتفعة التي يشق سلوكها. ولا شك أن الهداية إلى السبيل الواضحة الميسرة أدعى إلى الشكر، ولذا قال في سورة البلد: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}، وقال هنا: {إِمَّا شَاكِرًا}. وقد تقول: ولم قدّم الشاكر على الكفور، في حين قدّم عذاب الكافرين على ثواب المطيعين؟ والجواب: أنه أفاض في جزاء الشاكرين، في حين اختصر عقاب الكافرين وأوجز فيه فناسب التقديم. جاء في (تفسير البيضاوي): "وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم؛ لأن الإنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام به وختمه بذكر المؤمنين أحسن" (7). كما أن هذا التقديم في أول السورة نظير التقديم في آخرها في قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فقد قدم من رحمته ومنهم الشاكرون، وذكر بعدهم الظالمين ومنهم الكفور. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 217 إلى ص 221. (1) تفسير ابن كثير 4/453. (2) انظر روح المعاني 1/91، وانظر في كتابنا (لمسات بيانية) سورة الفاتحة. (3) البحر المحيط 8/394. (4) تفسير البيضاوي 774، وانظر روح المعاني 29/153. (5) روح المعاني 15/63. (6) لسان العرب (سبل) 13/340 – 341. (7) أنوار التنزيل 744، وانظر روح المعاني 29/153.