عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴿١﴾    [الأنبياء   آية:١]
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) } يحتمل أن يكون أصل التعبير (اقترب حساب الناس) ثم (اقترب الحساب للناس) بذكر اللام التي تفيد الاختصاص والاستحقاق. ثم قدم الجار والمجرور للاهتمام والتهويل وهو المهم فقال: (اقترب للناس الحساب)، ثم أضيف (الحساب) إليهم ليكون مختصًا بهم، وفيه تهديد أكبر فقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} ثم {اقْتَرَبَ} يفيد المبالغة في القرب، فإن (افتعل) أدل على المبالغة من (فُعَل)، والأصل (قرب). وقيل: إن اللام متعلقة بـ (اقترب)، واللام بمعنى (إلى) أو معنى (من)، والمعنى (اقترب من الناس حسابهم) أو (اقترب إلى الناس حسابهم). وقد ذكر هذين الاحتمالين صاحب (الكشاف) فقال: "هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لـ (اقترب)، أو تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: (أزف للحي رحيلهم)، الأصل: أزف رحيل الحي، ثم أزف للحي الرحيل، ثم أزف للحي رحيلهم... ومنه قوله: (لا أبالك) لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة... والمراد اقتراب الساعة، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97] (1). ومنع قسم من النحاة أن يكون (للناس) متعلقًا بالحساب؛ لأن (الحساب) مصدر ولا يتقدم معموله عليه. جاء في (البحر المحيط): "و(للناس) متعلق بـ اقترب... وأما جعله اللام تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدًا يقول ذلك، وأيضًا فيحتاج إلى ما يتعلق به، ولا يمكن تعليقها بـ (حسابهم) لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه" (2). وذهب بعضهم إلى إجازة ذلك، جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأنا لا أرى منعًا من تقدم معموله عليه إذا كان ظرفاً أو شبهه نحو قولك: (اللهم ارزقني من عدوك البراءة وإليك الفرار)، قال تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: ٢]، وقال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: ۱۰۲]... ومثله في كلامهم كثير، وتقدير الفعل في مثله تكلف (3). ونحوه قوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108]، وقولهم: (اللهم اجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا)، وجعل الظرف متعلقًا بمحذوف حالاً من المصدر تكلف (4). إن تقديم الجار والمجرور (للناس) احتمل معنيين: الأول: أنه بمعنى اقترب من الناس أو إليهم فيكون متعلقًا بالفعل (اقترب). وعليه الأكثرون. والمعنى الآخر: أن يكون متعلقًا بالحساب، أي اقترب الحساب للناس، أي حساب الناس. كما أجازه جماعة من النحاة. فأفاد التقديم المعنيين واحتملهما، بخلاف ما لو أخر الجار والمجرور فقال: (اقترب الحساب للناس). ثـم إن تقـديـم (للنـاس) سـوغ ذكـر الضميـر فـي الحساب فقـال: (حسابهم)، ولو أخر الجار والمجرور فقال: (اقترب حساب الناس) أو: الحساب للناس لم يكن للضمير موضع. فذكر في التعبير: الناس مع ضميرهم، وهذا يفيد ضربًا من التأكيد. وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب تهويل وتفخيم، فكأن الحساب يحث السير والسعي للوصول إليهم، فهو استعارة تمثيلية، فكأن الحساب شخص مغير معجل الإغارة للوصول إلى الناس. جاء في (تفسير أبي السعود): "وفي إسناد الاقتراب المنبئ عن التوجه نحوهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يعتبر التوجه والإعراض من جهتهم نحوه من تفخيم شأنه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم ويصيبهم لا محالة" (5). وجاء في (التحرير والتنوير): "الاقتراب مبالغة في القرب... وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية، شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس. ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة وهي هيئة المغير والمعجل في الإغارة على القوم يلح في السير تكلفًا للقرب من ديارهم وهـم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غازين معرضين عن اقتراب العدو منهم" (6). {لِلنَّاسِ} قيل: إن المقصود بالناس مشركو مكة، وقيل: المشركون مطلقًا وقيل: هو عام في منكري البعث (7)، وقيل: إن المراد بالناس العموم (8). والذي يبدو أن المقصود بالناس كل من اتصف بالغفلة والإعراض. وإطلاق لفظ الناس على هؤلاء من باب المجاز المرسل والعلاقة الكلية، فقد ذكر الكل وأراد قسمًا منهم. جاء في (الكشاف): "وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين" (9). {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} وصفهم بالغفلة والإعراض، وقيل: إن هذين الوصفين ظاهرهما التنافي، فإن الغافل غير المعرض، فإن المعرض عن الشيء إنما يكون إذا كان ذاكرًا له. وقيل: إنهما وصفان باعتبار حالين مختلفين، فإنهم غافلون فإذا ذكرتهم أعرضوا. جاء في (الكشاف): "وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم... وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا" (10). وجاء في (البحر المحيط): "وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين. أخبر عنهم أولًا أنهم لا يتفكرون في عاقبة أمرهم بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم. ثم أخبر عنهم ثانيًا أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك" (11). وقال: (في غفلة) بذكر (في) الظرفية، ولم يقل: (غافلون)، للدلالة على أنهم ساقطون في الغفلة وأن الغفلة محيطة بهم من كل الجهات وهم مغمورون فيها. جاء في (التحرير والتنوير): "ودلت (في) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها" (12). ولم يرد نحو هذا التعبير في القرآن الكريم إلا في اليوم الآخر. قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: ۹۷]. وقال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ۲۲]. وآية الأنبياء هذه. وذلك أشد الغفلة. وجاء بالإعراض بالصيغة الاسمية فقال: {مُعْرِضُونَ } للدلالة على الثبات والدوام. والوصف بالإعراض الثابت الدائم مناسب لهذه الغفلة العظيمة الغامرة. وفي الآية مبالغات عديدة منها: أنه قال: {اقْتَرَبَ } ولم يقل: (قرب) وهو مبالغة في القرب. وقال: (للناس) فأطلق الكل على الجزء وهم المشركون أو المتصفون بـ هذين الوصفين وهو مبالغة. وقدم الجار والمجرور للاهتمام والتهويل، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه أفاد التوسع في المعنى، فقد يحتمل أن يكون {لِلنَّاسِ} متعلقًا بـ {اقْتَرَبَ }، ويحتمل أن يكون متعلقًا بالحساب، فأفاد معنيين وهو توسع في المعنى. وأضاف الحساب إلى الناس فقال: {حِسَابُهُمْ} تهويلاً وإنذارًا شديدًا، ولم يقل: (اقترب للناس الحساب). وقال: {فِي غَفْلَةٍ} ولم يقل: (غافلون) للدلالة على تمكن الغفلة منهم وأنهم ساقطون فيها كالساقط في اللجة. وقال: {مُعْرِضُونَ} بالاسم للدلالة على الثبات والدوام. وجمع بين الغفلة والإعراض. فهم في غفلة فإذا ذكروا أعرضوا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 7 إلى ص 12. (1) الكشاف ۲/۳۲۰. (۲) البحر المحيط 6 / ٢٩٥ - ٢٩٦. (۳) شرح الرضي على الكافية 3/406. (٤) حاشية الخضري على شرح ابن عقيل ۲/۲۲. (5) تفسير أبي السعود ٣/٦٨٢. (6) التحرير والتنوير ۱۷/8 – 9. (7) انظر الكشاف ۲/۳۲۰، البحر المحيط 295. (8) فتح القدير 3/٣٨٤. (9) الكشاف ۲/۳۲۰. (10) الكشاف ۲/۳۲۰. (11) البحر المحيط 6/٢٩٦. (12) التحرير والتنوير ۱۷/۱۰.