عرض وقفة تذكر واعتبار

  • ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴿٨﴾    [الإسراء   آية:٨]
 " وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا " أنا امرأة متزوجة ولدي طفلتان , وبسبب ظروف الحياة الصعبة , وبسبب دراستي الجامعية اندرجت في العمل بأحد البنوك الربوية , وأنا أحب بطبيعتي التفاني والإخلاص في العمل ؛ فكنت من الموظفات النشيطات المتميزات والمحبوبات من الزبائن , لا أزعم أنني لم أكن أعلم أن العمل بالربا حرام ؛ ولكن لم يكن لدي الوازع الديني القوي ليردعني , وبالرغم من ذلك كنت دائما أشعر أن هناك خطأ ما , وأن مكاني المناسب ليس هنا , إلي أن توفي أبي وبدات بقراءة القرآن بتدبر فتأثرت جدا بقوله تعالي في سورة الحاقة : " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) " , فكانت هذه الآيات تصيبني بنوبة بكاء شديدة , وخوف وهلع كلما تصورت نفسي مع من سيؤتي كتابه بشماله , فكنت في داخلي أتمني أن أصبح من الأخوات الملتزمات , ومع الوقت تكاثرت الديون الربوية علي وعلي زوجي لبناء البيت فكنت مقيدة بها شر تقييد . وفي إحدي الليالي تسللت من فراشي وفرشت سجادتي وصليت ورفعت يدي لله , وسألته أن يتوب علي من العمل في البنوك , وأن يدبر لي لأنني لا أحسن التدبير , وأن يختار لي لأنني لا أحسن الاختيار . وعلمت فيما بعد بأنني في هذا الدعاء قد تبرات من حولي وقوتي دون أن أشعر , وحصل بعد ذلك أن انتقلنا لفرع جديد لهذا البنك تم تأسيسه , فبدأت الزيادات والترقيات وشهادات الشكر , وزاد حب الزبائن وتقدير المديرين لي , حتي أصبحت إن غبت عن العمل تتعطل المعاملات المنوطة بي , وأصبحت أدير منصبين معا في آن واحد , وبعد ثلاثة أشهر فقط من تأسيس الفرع الجديد شعرت فجأة بألم شديد في خاصرتي , فأخذني زوجي إلي المستشفي , وتم اكتشاف ورم خبيث ( سرطاني ) أدي إلي استئصال الرحم بالكامل , وكانت النتائج تقول بأن عمر الورم ثلاثةِ أشهرٍ فقط , فعلمت مباشرة أن هذا هو ترتيب رب العالمين لي ؛ لأن عمر المرض هو نفسه عمر تأسيس الفرع الجديد . كان أولُ ما فعلتُهُ أن كتبت استقالتي من البنك دون تفكير , وقد تعرضت لضغوط كثيرة من الأهل والمديرين في البنك , ونصحوني بعدم التسرع لأني واقعة تحت ضغط نفسي يمنعني من التفكير السليم , لكني كنت متيقنة بأن الله سيختار لي , وبعدها خضعت للعلاج الكيماوي , وكان زوجي – بعد الله تعالي – خير عون ورفيقٍ وصاحبٍ لي في هذا الابتلاء , وكان كتاب الله بيدي دائما , فاستوقفتني فيه آية في سورة الإسراء تقول : " عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) " , ودخلت الآية قلبي وكأنها خطاب وتحذير من رب العالمين لي مباشرة , كي تحذرني الوقوع في مثل هذا الخطأ مرة أخري , فكانت كلمة " وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا " تتردد علي مسامعي كلما عاودني الحنين للعمل أو لزميلاتي أو لمكتبي , وبعدها فوجئت أن البنك أعطاني مساعدة مالية كبيرة , بالإضافة لحقوق نهاية الخدمة , وأن البنك الآخر قد أسقط عني نصف القرض , وكنت أسمع صوتا يتردد في داخلي يقول لي : لا عذر لكِ الآن , لقد شفيناك ومنحناك فرصة جديدة للحياة , ورزقناك من المال الحلال ما يسقط كل ديونك , وأعطيناك زيادة لتبدأ حياتك من جديد ؛ فإن عدت عدنا ! وكانت بداية التحول في حياتي , فبدأت بدراسة العلم الشرعي , وحضور مجالس الذكر ؛ حتي أصبحت مديرة مركز نسائي دعوي ناجح . أسأل الله القبول . واليوم – وبعد مرور أكثر من أربع سنوات – لا زالت تلك الآية تتردد في مسامعي : " وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا " , حتي إن زوجي كان يكررها علي كلما آنس مني ضعفا أو حنينا لعملي السابق , أو كلما مررنا بالبنك فوجدني أتطلع إلي الداخل لأري الموظفين الجدد الذين يجلسون مكاني , فيكرر : " وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا " , فابتعد مباشرة بنظري عن البنك , متذكرة مرضي والمحنة التي مررت بها , وإن عدت فسيعود , فاستغفر الله وأحمده ." عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) " . لقد كانت هذه الآية – ولا تزال – خطا أحمر بالنسبة لي , وجرس إنذار قوي لا يمكنني تجاوزه , فالحمد لله .