| ١٤١ |
برنامج لمسات بيانية
*موضوع كلمة قسورة عند العرب (فرت من قسورة) وكلمة كُباراً وسمعنا أن أبو لهب وأبو جهل أنكروا على الرسول هذه الكلمات في القرآن أنهم لم يسمعوا بها من قبل وهم أهل اللغة ووردت قصة أن رجلاً كبيراً من المشركين أمره الرسول بالجلوس ثم أمره بالنهوض ثم بالجلوس فقال الرجل الكبير: (أتسخر مني يا قسورة العرب وأنا رجل كباراً) هل هذه القصة صحيحة؟ فهل كلمة قسورة (فرت من قسورة) وكباراً (ومكروا مكراً كباراً) كلمات عربية ؟(د.فاضل السامرائى)
كلتاهما عربية وكبار من الصفات العربية وقسم من اللغويين يجعلونها تدرج فعيل فُعال فُعّال، كبير كُبار كُبّار طويل طوال طُوّال، حسن حُسان حُسّان يجعلها قياس تدرج، فعيل فإذا بلغ الزيادة في الوصف تتحول إلى فُعال وهي أبلغ من فعيل عجيب وعُجاب وإذا بلغ الزيادة اقتضى التكثير والتضعيف (فُعّال) مثل رجل قُرّاء. إذن كُبّار هي عند بعض اللغويين قياس لا سماع وقسم يقول هي سماع.
ربما نقرأ في بعض القصص (أتستهزئ بي يا ابن قسورة العرب وأنا رجل كباراً في قومي إن هذا لشيء عجاب) فهل هذه الكلمات عربية؟
قالوا هذه حبشية كبار هذه في القياس عندنا رجل قُرّاي أي رجل كثير القراءة مثل فُعّال في الجمع، مكر كباراً مكراً كبيراً محبوكاً تماماً. وحتى في العامية نقول رجل كباراً. وقسورة من (فعوَل) قسر الفريسة قسراً ونقول قسره إذن قسورة فعول موجودة في اللغة.
هل في القرآن كلمات غير عربية؟ هذا سؤال قديم هنالك كلمات دخلت العربية قبل الاسلام فلما دخلت في اللسان العربي أصبحت عربية بالاستعمال. لكن ربما يكون الأصل الذي انحدرت منه غير عربي وهذا في كل اللغات ما يسمى بتقارب اللغة وهناك بحوث كثيرة في القديم والحديث في هذا المجال. هذا لا يتعارض مع قوله (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) الشعراء) بلسان عربي أي يتكلمون به لأن العرب كانت تستعمل هذه الألفاظ مثل أرائك وسندس في حياتها ولم تكن هذه الألفاظ جديدة عليها .
الوقفة كاملة
|
| ١٤٢ |
قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمِْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانهُ) .
إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أن العبد ما لم يهده الله لا يتَّبع رضوانه فيلزم الدَّورُ؟
قلتُ: فيه إِضْمارٌ تقديرُه: يهدي به اللَّهُ منْ علِم أنه
يريد أن يتَّبع رضوانه، كما قال: " والَّذينَ جاهَدُوا فينَا لَنَهْدِينَّهمْ سُبُلَنَا)
أي والّذين أرادوا سبيل المجاهدة لنهدينهم سبيل مجاهدتنا.
الوقفة كاملة
|
| ١٤٣ |
قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموَاتُ وَالأرْض. .) الآية.
إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ السمواتِ والأرضَ يَفْنيان، وذلكَ يُنافي الخلودَ الدائم؟!
قلتُ: هذا خرج مَخْرج الألفاظ، التي يُعَبِّر العرب فيها عن إرادة الدوام، دون التأقيت، كقولهم: لا أفعل هذا ما اختلفَ الليلُ والنَّهارُ، وما دامتِ السمواتُ والأرضُ، يريد لا يفعلُه أبداً.
أو أنهم خوطبوا على معتقدهم أنَّ السمواتِ والأرضَ لا يفنيان.
أو أن المراد سمواتُ الآخرة وأرضُها، قال تعالى:
" يوم تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرضِ والسَّمواتُ " وتلك دائمة لا تفنى.
إن قلتَ: إذا كان المرادُ بما ذُكر الخلودُ الدائم،
فما معنى الاستثناء في قوله " إلَّا ما شاء ربُّك "؟
قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النار
(1) ،
ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، لأن أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبون بالزمهرير، وبأنواع أخَرَ من العذابِ، وبما هو أشدُّ من ذلك، وهو سَخَطُ اللَّهِ عليهم. وأهلُ الجنة لا يُخلَّدون في نعيمها وحده، بل يُنعَّمون بالرضوان، والنظرِ إلى وجهِه الكريم، وغير ذلك، كما دلَّ عليه قوله تعالى (عَطَاءً غيرَ مَجْذُوذٍ) .
أو " إلّاَ " بمعنى غير، أي خالدين فيها ما دامت السَّمواتُ والأرضُ، غير ما شاء اللَّهُ من الزيادة عليهما، إلى ما لا نهاية له.
أو " إلَّا " بمعنى الواو، كقوله تعالى (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ) .
الوقفة كاملة
|
| ١٤٤ |
قوله تعالى: (لِنُحْييَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماَ وَأَنَاسِيَّ كثِيراً) .
ذكر الصفة مع أن الموصوف
مؤنَّثٌ، نظراً إلى معنى البلدة وهو المكان، لا إلى لفظها، والسرُّ فيه تخفيف اللفظ.
وقدَّم في الآية إحياءَ الأرضِ، وسقيَ الأنعامِ، على سقي الأناسيّ، لأن حياة الأناسيّ بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتهم ومعاشهم، ولأن سقْيَ الأرضِ بماء المطرِ، سابقٌ فِي الوجود على سقي الأناسيّ.
الوقفة كاملة
|
| ١٤٥ |
قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً. .) الآيتين.
إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن السَّوْق فيه نوعُ إهانةٍ، لا يليقُ بأهل الجنَّة؟
قلتُ: المرادُ بسوق " أهلِ النَّارِ " طردُهم إليها بالهوانِ والعنفِ، كما يُفعل بالأسرى الخارجين على السلطان، إذا سيقوا إلى حبسٍ أو قتل. وبسوقِ " أهل الجنَّةِ " سوق مراكبهم، حَثّاً وإسراعاً بهم إلى دار الكرامةِ والرضوان، كما يُفعل بمن يُشرَّفُ وُيكرَّمُ من الوافدين على السلطان.
فإن قلتَ: كيف قال في صفة النَّارِ " فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " بلا واوٍ، وفي صفة الجنة بالواو " وَفُتِحَتْ أَبْوَابُها "؟
قلتُ: هي زائدة، أو هي واوُ الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ، أو واوُ الحال أي جاءوها وقد فُتِحَتْ أبوابُها قبل مجيئهم، بخلاف أبواب النَّارِ فإنها إنما فُتحت عند مجيئهم، والسرُّ في ذلك أن يتعجلوا الفرح والسرور، إذا رأوا الأبواب مفتَّحةً.
وأهلُ النار يأتونها وأبوابُها مغلقةٌ ليكون أشدَّ لحرِّها
(1) ، أو أنَّ الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذلٍّ وهوان، فصِينَ أهل الجنة عنه. أو أن الكريم يُعجِّل المثوبة وُيؤخّر العقوبة، أو اعتبر في ذلِكَ عادةُ دارِ الدنيا، لأن عادة مَنْ في منازلها من الخدم، إذا بُشّروا بقدوم أهل المنازل، فُتح أبوابها قبل مجيئهم، استبشاراً وتطلعاً إليهم، وعادةُ أهل الحبوس إذا شُدِّد في أمرها، ألَّا تفتح أبوابُها إلا عند الدخول إليها أو الخروج.
الوقفة كاملة
|
| ١٤٦ |
• ﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام :١٢٢] مع ﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس :١٢]
• ما وجه تعقيب موضع الأنعام، بقوله : ﴿ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ، وموضع يونس، بقوله : ﴿ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ؟
• قال الإسكافي : لــ " أن يقال : إن الأول قبله : ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾، والمراد بالميت هاهنا : الكافر، والنور : الإيمان، وحياته به، ومن في الظلمات : من استمر به الكفر، ولم يتنقل عنه، فكان ذكر الكافرين بعده أولى.
أما المكان الثاني، فإن القبلة : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ [يونس :٧] فهذه صفة كفار، نعّموا أبدانهم، ودنّسوا أديانهم، واقتصروا على عمارة الحياة الدنيا، واطمأنوا بها، ولم يتّبعوا لطلب الأخرى، وهم المسرفون، الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر :٤٣]؛ لأنهم غلوا في الدنيا، وتعجل نعيمها، وتجاوزها الحد في عمارتها، والإعراض عما هو أهم لهم منها ".
الوقفة كاملة
|
| ١٤٧ |
• ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة :١١٩] ، ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة :١٠٠] ، ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة :٨]
• ما وجه اجتماع الرضا والتأبيد في آية المائدة، وآية براءة، وآية البينة ؟
• قال الغرناطي : " أما آية المائدة : فقد قال تعالى فيها : ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾، وورد التصديق لعيسى (عليه السلام) فوسمهم فيها بالصدق، وهو أسنى حالات الإيمان، وقد قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة :١١٩]، فالصدق حال الأنبياء والرسل وأولي السوابق، وأما آية براءة ففيها : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ ﴾ سبقية هؤلاء رضوان الله عليهم وما عرف من حالهم، وأنهم صفوة المحسنين من هؤلاء الأمة، معلوم ملحق لهم بنمط الأعلين من الصادقين من أتباع الرسل، فلما كان المشار إليهم في الآيتين هم الأسوة والقدوة لمن سواهم؛ ناسب حالهم الإطناب، فذكر الرضا والتأبيد، ولم يقع في الآيات البواقي وصف يلحق أصحابه بهؤلاء، وإن شملهم الرضا والخلود في الجنة، وأما آية البريئة : فإنها على حكم مقتضى الترتيب الثابت آخر آية ذكر فيها حال المؤمنين في الجزاء الأخروي معقباً به ذكر جزاء من كان في طرف من حالهم من مستوجبي النار على التأييد؛ فكانت هذه الآية مظنة استيفاء للحال؛ فوردت ورود الآيتين قبلها ".
الوقفة كاملة
|
| ١٤٨ |
ما دلالة اسم الإشارة وذلك و التي للبعيد؟
* أي ما ذكره من الجزاء والرضوان.
التنويه بعلو منزلته ، وجلال قدر من حظي به ، ومن يستحق هذا الجزاء خشي مقام الرحمن؛ فتمثل في نفسه خوفاً مقرونا بالأمل هو والتعظيم لجلال الله عز وجل.
روح المعاني ، التفسير الموضوعي .
الوقفة كاملة
|
| ١٤٩ |
استعاذ بثلاث صفات من صفات الله تعالى وهي الرب والملك والإله من شر واحد وهو شر الوسواس الخناس، في حين استعاذ بصفة واحدة وهي الرب في سورة السابقة من شرور متعددة مجملة ومفصلة، ذلك أن هذا الشر أخطر على الفرد والمجتمع من تلك الشرور، فإن شر الوسواس يعود على الفرد الذي تلقى إلية الوسوسة وعلى الآخرين فيقع تحت طائلة الحساب والعقاب في الدنيا والآخرة.
جاء في (البحر المحيط): "ولما كانت مضرة الدين وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا – وإن عظمت – جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث: الرب والملك والإله وإن اتحد المطلوب، وفي الاستعاذة من ثلاث: الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب، وإن تكثر الذي يستعاذ منه" (1).
لقد ذكر ثلاث صفات من صفات الله تعالى يستعيذ بها المستعيذ وهي الرب والملك والإله، وقد قدم الرب أولًا ثم الملك وبعده الإله، وكل ذلك لسبب.
فإن هذا هو التدرج الطبيعي لدفع المحذور، فإنك إذا خشيت محذورًا أو وقع عليك ظلم أو عدوان مما لا تملك دفعه فإنك تلجأ أولًا إلى دفعه بالمعرفة والعلم والرأي، وتستعين بأولي المعرفة والخبرة ليوجهوك إلى ما تفعل في نحو هذا. وهذا هو شأن الرب، فإن الرب هو المربي والمرشد، والموجه والمعلم. فإذا لم ينفع بذلك التجأت إلى السلطان والحاكم، ويعبر عنه أيضًا بالملك، فإن لم يندفع بذلك أو لم يأخذ لك حقك التجأت إلى الله وفوضت أمرك إليه ليخلصك منه ويأخذ لك حقك.
وقد جمع الله لنفسه هذه الجهات، فهو الرب والملك والإله، فإذا قصدت أهل الخبرة والعلم والتوجيه فالتجئ إلى الله، وإذا قصدت السلطان فالتجئ إلى الله، وإذا قصدت الإله الذي عنا له كل شيء فالتجئ إلى الله.
جاء في (روح المعاني): "ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلًا لاختلاف الصفات بمنزلة اختلاف الذات، فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه، فإن لم يقدر على رفعه لملكه وسلطانه، فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة على عظم الآفة المستعاذ منها" (2).
ثم إن الناس يمرون بأطوارٍ ومراحل:
فالمرحلة الأولى: هي مرحلة الأجنة والأطفال إلى ما دون سن التكليف، وهؤلاء محتاجون إلى من يربهم ويقوم على أمرهم ويتولى شؤونهم وذلك هو الرب.
فإذا كانوا في مجتمع احتاجوا إلى من ينظم أمورهم ويحفظ لكل ذي حق حقه ويحمي بعضهم من عدوان بعض، وذلك شأن الملك.
فإذا بلغوا سن التكليف والنظر في أمر هذا الكون ومدبر أمره وما يطلبه منهم خالقهم كان ذلك متعلقًا بأمر الإله.
إن أول ما يواجهه الناس فيما يتعلق بحياتهم هو المربي والقيم الذي يقوم على أمرهم، ثم الملك. أما أمر الألوهية فيخفى على كثير من الناس فيضلون ويعبدون الأحجار والأبقار. وقد يبقى أمر الألوهية خافيًا على قسم من الناس غير ظاهر لهم فيحتاجون إلى الأدلة والبراهين للتدليل عليه، بخلاف أمر المربي والملك فإنهما يعرفان ضرورة، فالإله آخر ما يعرف ويعلم ولذلك أخره والله أعلم.
جاء في (روح المعاني): "وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة، وقيل: لا تكرار، فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده، فالناس الأول: بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية.
الثاني: الكهول والشباب لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم.
والثالث: الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى" (3).
وجاء في (فتح التقدير): "وأيضًا بدأ باسم الرب، وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلًا كاملًا، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك، فذكر أنه ملك الناس. ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وأنه عبد المخلوق، وأن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس" (4).
ثم لننظر من ناحية أخرى أنه بدأ بالمرحلة الأولى التي يشترك فيها الإنسان والحيوان وهي مرحلة المربي، فإن الحيوانات تربي صغارها وتقوم على أمرها، وهذا هو شأن الرب، وهي لا تحتاج إلى ملك ينظم أمرها.
ثم يترقى المجتمع فتنشأ علاقات بين أفراده وتظهر حقوق وواجبات فيحتاجون إلى الملك أو السلطة، وهذا شأن كل المجتمعات سواء ما كان منها ذا دين أم لم يكن، وهو شأن الملك. وربما كانت عند قسم من الحيوانات والحشرات مظاهر أولية من مظاهر التجمع والانقياد إلى ملك ونحوه.
ثم يختص عقلاء خلق الله بالنظر في أمر هذا الكون وخالقه ومدبره والانقياد له، وهذا هو أمر الألوهية والإله، فرتبه على هذا النهج.
ثم إن الناس إما أن يكونوا طلاب علم ومعرفة وإصلاح وارتزاق فيقصدوا الرب المعلم والمرشد والقيم والمربي الذي يرب الناس، وإما أن يكونوا طلاب جاه وسلطان فيقصدوا الملك، وإما أن يكونوا طلاب دين وآخره فيقصدوا الإله. وقد جمع الله لنفسه كل هذه الصفات، فهو الصمد الذي يقصد إليه كل طالب، فهو الرب والملك والإله.
ثم نلاحظ أنه تدرج في الصفات من الكثرة إلى القلة، وفي المضاف إليه – وهم الناس – من القلة إلى الكثرة، فالأرباب قد تتعدد فيكون للدار رب وللعبد رب ولكل مجموعة رب يربهم ويرشدهم، قال تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
فقد يكون في المجتمع الواحد مرشدون وموجهون ومربون، فكل واحد رب لجماعته، أي مرب ومعلم ومرشد.
والملوك أقل؛ لأنه يكون للدولة الواحدة ملك واحد مع تعدد الموجهين والمرشدين، وهم في ممالك الدنيا متعددون، فكل مملكة ملك.والإله واحد لا شريك له.
فهو قد تدرج من الكثرة إلى القلة.
الوقفة كاملة
|
| ١٥٠ |
إن مناسبة هذه السورة لما قبلها - أعني سورة الفيل - ظاهرة، فإن أصحاب الفيل إنما جاؤوا بسبب هذا البيت. وقد حفظ الله بيته وحماه، وحفظ قريشًا وحماهم، وأهلك أصحاب الفيل إكرامًا وتعظيما لهذا البيت، فكان حفظ البيت حفظًا لهم وحماية لأمنهم ومعاشهم "إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد والأقاليم ولم ترتفع لهم كلمة" (1).
جاء في (التفسير الكبير) للرازي: "اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما: دفع الضرر، والثاني: جلب النفع. والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب، أما جلب النفع فإنه غير واجب، فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة. ولما تقرر أن الإنعام لابد وأن يقابل بالشكر والعبودية لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال: {فَلْيَعْبُدُوا}" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 131 إلى ص 132.
(۱) البحر المحيط ۸/513.
(2) التفسير الكبير 32/107.
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}
الإيلاف من الألف والألفة، وهو مصدر (آلف)، وأصل (آلف): (أألف) بهمزتين، وأصل (الإيلاف): (الإيلاف) بهمزتين، أبدلت الهمزة الثانية مدًّا في الفعل والمصدر لسكونها وتحرك الهمزة قبلها "والإيلاف - كما قال الراغب - اجتماع مع التئام" (1).
وقد كانت قريش قد ألفت رحلتين: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام "فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيه آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته فلا يتعرض لهم، والناس غيره يتخطفون ويغار عليهم" (۲).
إن الجار والمجرور (لإيلاف) متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي ( ليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف) والمقصود أن هذه النعمة وحدها كفيلة بعبادة رب البيت الذي به أصبحوا آمنين مطعمين، فكيف بنعم الله الأخرى عليهم؟ فإن لم يكونوا يعبدونه لتلك النعم فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة.
وقيل: الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره (اعجبوا)، أي اعجبوا لإيلاف قريش هاتين الرحلتين وتركهم عبادة رب هذا البيت الذ يسّر لهم هذا الأمر والناس يتخطفون من حولهم.
جاء في (الكشاف): "{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} أمره أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين.
فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟
قلت: لما في الكلام من معنى الشرط؛ لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم، على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة.
وقيل: المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش" (3).
وجاء في (البحر المحيط) أن الجار والمجرور يتعلق "باعجبوا مضمرة، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت" (4).
"وقال الخليل بن أحمد: تتعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} والمعنى: لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة فليعبدوا، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة" (5).
واختيار لفظ (الإيلاف) يدل على أن هذا الأمر مألوف عندهم وليس طارئًا عليهم، وهذا ما يستحق أن يشكروا ربهم عليه.
وقـدم الجـار والمجرور {لِإِيلَافِ} على متعلقـه وهـو الفـعـل {فَلْيَعْبُدُوا} لأكثر من سبب وليعطي أكثر من فائدة، منها:
1- أنه لو قال: (ليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش) لاقتضى ذلك حذف الفاء، ولا نمحي المعنى الذي تدل عليه، وهو ما سنذكره فيما بعد، فإنه لا تصح زيادة الفاء أولًا.
٢- إن هذا التقديم وسع المعنى، فهو يحتمل أنه متعلق بالفعل (ليعبدوا) ويحتمل أنه متعلق بفعل مضمر تقديره (اعجبوا) ولو تأخر لتعين تعلقه بالفعل المذكور (ليعبدوا).
3- أن تقديمه قوّى الربط بين هذه السورة والسورة المتقدمة فجعلهما كالسورة الواحدة، فكأنه قال: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. وقد ذهب بعضهم إلى أنه متعلق به (6).
4- إن تقديم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} يفيد أهمية هذا الإيلاف في حياتهم وعظيم مكانته عندهم، وأن التذكير بهذه النعمة مدعاة إلى الاعتراف بموليها عليهم وعبادته لا عبادة الأصنام، ولا يفيد التأخير هذا الاهتمام أو العناية.
5- أنه لو لم يقدم لقال: (لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمها من جوع وآمنها من خوف لإيلافها رحلة الشتاء والصيف) فيتمزق الكلام ويذهب رونقه وفخامته ولم يؤد المعنى المقصود، إذ من المحتمل أن يكون الجار والمجرور عند ذاك متعلقًا بأطعمها وآمنها، فيكون المعنى أنه أطعمها وآمنها للإيلاف، ولم يكن الإيلاف مدعاة إلى العبادة.
6- إن هذا التقديم إنما هو من باب تقديم العلة على الفعل، فذكر العلة التي تستدعي العبادة أولًا وتلاها بطلب ذلك، فيكون ذلك من باب التقديم بالسبق، فإن العلة هي الدافع إلى الفعل، وهي أسبق منه، فقدمها لذلك.
وهو نظير ما جاء في سورة الفاتحة وهو قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنه قدم سبب اقتضاء إفراد الله بالعبادة، وهنا فعل ذلك أيضًا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 132 إلى ص 135.
(1) روح المعاني 30/238.
(2) الكشاف 3/360.
(3) الكشاف 3/360.
(4) البحر المحيط 8/514.
(5) البحر المحيط 8/514.
(6) الكشاف 3/360 .
الوقفة كاملة
|